+A
A-

فيلم "الصمت" لمخملباف.. أسلوب ثوري جديد في التعبير السينمائي

في تصوري الشخصي أن المخرج الإيراني القدير محسن مخملباف قد استحدث في فيلمه الرائع "الصمت" إنتاج 1998 والذي شاهدته لثاني مرة قبل أيام عبر "يوتيوب"، ولكن لم تسنح لي الفرصة بالكتابة عنه حينها، أسلوبا ثوريا جديدا في التعبير السينمائي، وهو إن كان قد أعاد استعمال طرائق فنيه معروفة من قبل، مثل العودة إلى الوراء، والتصوير من تحت مستوى النظر ومن زوايا غريبة، إلا أنه قد حولها جميعا بطريقته الخاصة الثورية، واستخلص منها تأثيرات جديدة لها طابع أصيل، وقد استفاد مخملباف من طفولته في هذا الفيلم، فأبدع مفهوما جديدا في استخدام الموسيقى، والالتحام السمعي والحسي عند بطل الفيلم الطفل "خورشيد" الأعمى، ولكنه يمتلك إذنا موسيقية خارقة تميل تلقائيا إلى أي صوت جميل، بما فيها أصوات الحشرات التي يميزها.

العامل الحاسم في روعه وجمالية هذا الفيلم وقدرته على الإقناع، هو منطقية العلاقات التي يطرحها بين عناصره، فإذا كان العالم الذي يقدمه تعترضه تناقضات داخلية تجعل التصرفات والأحداث غير مبررة أو غير مفهومة أو مشوشة، يفقد الفيلم قدرته على الإقناع بصدق ما يعرضه، بغض النظر عن مادته سواء كانت مستمدة من الواقع الخارجي أو الخيال.

هنا الطفل "خورشيد" مولعا بعالمه الخاص الموسيقى، رغم مواجهته المتاعب في حياته، فالموسيقى التي يسمعها في شوارع القرية ومن الموسيقيين المتجولين "قرية في طاجكستان" والتي ينحدر سكانها من أصول إيرانية، هي صورته المضيئة في الحياة وبالغة الثراء، خصوصا وهو يعمل في محل للآلات الموسيقية بمهنة "مدوزن" أو ضابط لحنا أو نغمة، وكل لمسه يقوم بها تعتبر بالنسبة له إضافة فنية تزيده من الإحساس بالسعادة والفرح إلى حد الاختناق.

وعندما يكسر القدر تدفق الموسيقى التي يسمعها من أهل القرية يرفض الهزيمة، ويلهث عقله وخياله في استحضار جزء من السيمفونية الخامسة لبتهوفن، فتمنحه قوة إيجابية إلى درجة تجعله لا يشعر بمن حوله.

ويستمر الفيلم في خصائصه وتماسكه الشكلي والجمالي، فالصورة تطبع تأثيراتها القوية عليك، وحركات الكاميرا للمصور إبراهيم غفوري تستمر في لقطات طويلة مبهرة، خاصة في المشهد الأخير الذي يتفرد بحس شاعري أخاذ، عندما يشكل الطفل الأعمى "خورشيد" اوركسترا متخيلة من الذين يعملون في سوق النحاس "الصفافير" ويقودهم في العزف على السيمفونية الرابعة لبتهوفن وهو يقول "وعاء الطهي الكبير مرة واحدة...الوعاء الصغير ثلاث مرات" هل فهمتم؟

هذا الفيلم والذي كتبه أيضا المخرج محسن مخملباف حصد على عدة جوائز لا مجال لذكرها، يبهرك في تفتيت الحركة أو الزمن واستغلال الصمت لرفع الحواجز بين الذات والموضوع. والاهتمام الإنساني العميق الذي يشمل كل شيء، أو ما يتعلق بالإنسان.. انه ترفيه من النوع الثاقب ذي المدى الواسع، ويمكن القول إنه مرتبط بالمسائل ذات الأهمية الشاملة والعميقة بدءا بالإنسان، والتي تتخذ شكلا مؤثرا أو مسارا تراجيديا أو كوميديا.