+A
A-

وردة القلب.. من المجموعة القصصية "يوميات أخصائية اجتماعية"

في يوم قائض من شهر آب، ذهبت إلى أحد المجمعات التجارية. أخذت أطوف بعربتي بين أروقة المجمع، وتوجهت نحو محلات المواد الغذائية. وقفت للحظة أتأمل الأغراض المتراصة على الرفوف، لآخذ ما أحتاج إليه. جذب انتباهي حوار يدور بين سيدتين كانتا تقفان إلى جواري. وبلا شعور، أخذت أستمع إلى الحوار، اختلست النظر إليهما. كانتا امرأتين في حوالي العقد الرابع من العمر.
أخذت الأولى تتمعن في إحدى علب الطعام، ثم قامت برميها في عربتها بلا مبالاة، بينما أخذت الأخرى تهز رأسها أسفاً وهي تقول:
- هل تصدقين هذا؟! لقد تم ايداعها مستشفى الطب النفسي. سمعت بأنها تعرضت لحالة اكتئاب شديدة بسبب وفاة ابنها. 
أثار الموضوع فضولي، عقدت حاجبي بشدة، وأخذت أستمع إلى باقي الحوار. هزت السيدة الثانية رأسها وهي تقول بأسى:
-المسكينة..فعلاً،هذا ما سمعته. يبدوا أنها لم تستطع أن تحتمل الصدمة.
تنهدت الأخرى، ثم التفتت إلى صديقتها قائلة: 
- لقد كانت الحادثة مفزعة. خرج ابنها يومها يقود دراجته الهوائية عبر الشارع السريع، وما هي إلا لحظات حتى...... ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تقول:
- حتى أقبلت سيارة مسرعة بسرعة جنونية ،ارتطمت به بقوة، ثم أردته صريعاً.
 وبلا شعور، عدت بذاكرتي إلى الوراء، إلى ما يقارب عشرين عاماً، حينما دخلت إحدى المعلمات إلى مكتبي وقد امتلأت عيناها بالدموع:
- أستاذة ميساء .. هل سمعت بالخبر المؤسف؟ لقد توفي التلميذ (زهير) بسبب حادث سيارة تعرض له ليلة البارحة! 
لم تقوَ قدماي على حملي، تهالكت على أقرب مقعد إليّ وأنا أقول بصوت مختنق:
- ماذا تقولين!؟ 
قطع حبل أفكاري صوت السيدة الأولى وهي تقول للأخرى بأسف:
- يقال بأن عمره كان تسع سنوات، المسكين. كان الله بعون والدته. 
سالت دموعي على وجنتي، مسحتها بأصابع مرتجفة، واشحت بوجهي عن السيدتين. زفرت بضيق وأخذت أضع الأغراض في عربتي بعصبية. سألت نفسي: لماذا شدني حوار تلكما السيدتين إلى هذا الحد؟! ربما لأن ظروف هذا الطفل تذكرني كثيراً بتلميذي الحبيب (زهير).
أتذكر جيدا فرحة الأم بقدومه إلى المدرسة في أول يوم دراسي بالصف الأول الابتدائي، كانت تتبع خطواته الأولى المتعثرة بنظراتها الحانية، وغالبا ما كانت معلماته يتضايقن من وجودها المستمر واليومي بالمدرسة. حدثتها احداهن يوما:
- أم زهير دعيه يعتمد على نفسه!
 بعد أن كانت تأخذه إلى المدرسة غالبا ما تعود أدراجها بتردد، وكأنها لا تريد أن تفارقه، نظراتها المحبة العطوفة لا تزال تتبعه، الم يكن هو طفلها المنتظر؟ لطالما تمنت قدومه إلى الدنيا، لقد أتى إليها أخيرا بعد طول انتظار، انتظار دام قرابة خمسة عشر عاماً، كم حلمت بقدومه إلى الدنيا بعد كل سنين الحرمان ليملأ حياتها سرورا وبهجة. وبلا شعور وجدت تلميذي (زهير) وكأنه يقف أمامي في هذه اللحظة.
سمعت بذهني دق جرس الفسحة، لأراه يأتي إلى غرفة مكتبي، بطوله المميز، وقسمات وجهه الوسيمة، ونظرات خاوية لا تعرف ماذا سيخبئ لها القدر. لقد عانى الكثير، حيث ترعرع في وسط ظروف أسرية صعبة؛ كان والده أنانياً، متحجر القلب، بينما أمه لا حول لها ولا قوة. سيدتي..! استفقت من ذكرياتي فجأة، لأجد أحد العاملين بالمجمع يقف أمامي وهو يشير إلى عربتي المملوءة: 
ـ عفواً.. هل تريدين المساعدة؟ 
هززت رأسي نفياً:
- لا.. شكراً لك. دفعت عربتي وكأنني أسير بلا هدف، وعاد شريط الذكريات ينساب إلى ذهني من جديد.
تعالى صوت إحدى المعلمات وهي تخاطبني بغضب:
- لقد سئمت منه ومن تصرفاته. إنه يلعب طوال الحصة، ولا ينتبه للدرس! أرجو -يا أستاذة- أن تتخذي الإجراء اللازم معه. لم أعد أحتمله!
 لقد كانت شكاوى المعلمات تجاهه عديدة. لم يحصل (زهير) على الاهتمام من أحد أفراد أسرته، سوى أمه فقط، والتي كانت تضطر إلى أن تخفي عن والده العديد من الشكاوى تجاهه، خوفاً من أن يعاقب بالضرب. كنت أدرك جيداً بأنه مجرد طفل، يحتاج إلى الرعاية والاحتواء، ولكنه لم يجدها من أبيه. لأنه كان مشغولا بنفسه، ففي كل فترة يتزوج ويحضر امرأة جديدة إلى المنزل، يؤمن بكثرة الإنجاب، ولكنهم بالتالي لم يلاقوا منه الرعاية المناسبة والاحتواء. 
وقفت أمام المحاسب، ووضعت الأغراض على الشريط المتحرك. أخذ الموظف يضغط على الأزرار بسرعه فائقة.
تذكرت حينها حواراً دار بيني وبين والدته. كانت أمه قصيرة القامة، ممتلئة نوعاً ما، في بداية العقد الخامس من العمر، على وجهها حفرت تجاعيد عكست شقاء السنين، ولها عينان غائرتان تحملان أسى العالم كله، وصوت هادئ رخيم. 
تذكرت حينما حضرت إلى مكتبي يوما مكسورة القلب ومحطمة الفؤاد. كانت ترى التلاميذ يتوافدون إلى مكتب الارشاد الاجتماعي، تتأملهم بشرود، وبعيون متحجرة بالدموع، وما هي إلا لحظات حتى أجهشت بالبكاء.
تأملتها بشفقة وهي تنتحب بشدة، أخذت تمسح دموعها بكم قميصها، ثم قالت بصوت يتقطع بسكين المرارة:
- اعذريني يا أستاذة ميساء.
 ربت على كتفها محاولة أن اواسيها:
- لاعليك. 
صمتت للحظة، ثم قالت بنفس الصوت المتهدج:
- من الصعب عليّ أن أنساه. كلما أتيت إلى هنا، ورأيت زملاءه، أتذكره، وأشعر بأنه سيأتي إليّ من مكان ما. 
قلت لها محاولة أن أخفف عنها:
- ام زهير ،لله ما أخذ ولله ما أعطى. احتسبي الأجر من الله سبحانه وتعالى. أدرك تماماً بأن الموقف صعب عليك جدا، ولكن هذا هو قضاء الله وقدره، وأنت إنسانة مؤمنة. 
تفضل يا سيدي.. قطع حبل أفكاري الموظف وهو يشير إلى السيد الذي يقف خلفي، شعرت بالحرج، ثم قلت بخجل:
- عذرًا! 
دفعت عربتي إلى خارج المجمع التجاري، وأحسست بلفحات الهواء الحار تضرب وجهي. وضعت الأكياس في صندوق السيارة، ثم جلست خلف المقود، وقمت بتشغيل زر المكيف. أخذ الهواء البارد يلاطف وجهي، تنهدت بعمق وأخذت أطوف الشارع، وكأنني أسير بلا هدف. حدثت نفسي: لقد مر فعلاً على وفاة (زهير) حوالي عشرين عاماً. لو قدر الله بقاءه على قيد الحياة، لكان الآن متزوجاً ولديه أولاد.
تنهدت بعمق وأنا أقود السيارة بشرود.
شعرت بالحزن وتذكرت الظروف القاسية التي مر بها. لقد احتويته بكل مشاعري وعواطفي، وحاولت جاهدة بأن أساعده، لكن الله عز وجل اختاره، ربما ليرتاح من عناء الحياة. أو ليجد الراحة الأبدية في الجنة، بعيداً عن أمواج الحياة العاتية وضرباتها. توقفت سيارتي أمام بوابة العمارة السكنية. نزلت واتجهت إلى صندوق السيارة، حملت الأغراض، ثم أقفلت الباب برفق. دخلت إلى شقتي، ووضعت الأغراض في الثلاجة. لمحت بطاقة صفراء داخل أحد الأكياس، أخرجتها وتأملت العبارة المكتوبة عليها.
تمتمت بصوت منخفض: 
- قسيمةمشتريات؟!
وبلا شعور، انساب شريط الذكريات من جديد. تدفق صوته إلى عقلي فجأة:
- أستاذة ميساء، أريدك أن تعطيني قسيمة الوجبة.
جلست خلف مكتبي، ثم فتحت الدرج. سحبت إحدى تلك القسائم، مددتها إليه وأنا أقول بلطف:
 - تفضل.
التقط القسيمة وخرج من المكان بسرعة، حتى يجد لنفسه مكاناً في الطابور الطويل على باب المقصف المدرسي. تنفست بعمق، وجلست على أريكة الصالة. غصت فيها، وأنا أغمض عيني.
لقد اعتدت أن أراه كل يوم، فهو من التلاميذ الذين كنت أتابعهم بشكل خاص، نظراً لملاحظات المعلمات عليه؛ من إهمال في الدروس والواجبات، وقيامه ببعض السلوكيات المشاكسة في الفصل، وعدم انتباهه أثناء الشرح. كنت ملمة جيداً بوضعه الأسري، فظروفه حتماً هي التي نسجت منه هذه الشخصية. مرت أيام صعبة، ذاق فيها الجوع مع إخوته. كانوا ينامون مراراً دون عشاء، وغالباً ما كان يحضر في اليوم التالي إلى مكتبي لكي أصرف له من قسائم وجبات الفطور الخاصة بالتلاميذ المحتاجين. الغريب في الأمر أن والده كان يتأنق ويهتم جداً بمظهره الشخصي، ويستخدم العطور الغالية، إضافة إلى سفره المستمر! ايعقل هذا؟!
هل بلغت القسوة واللا مبالاة ببعض الآباء إلى هذا الحد؟!
أم أنها عقدة النرجسية؟! 
وكأنه (نركسوس) في الأساطير الرومانية، والذي عشق نفسه لدرجة الوله. كان يتأمل نفسه على انعكاس البحيرة وحينما مات نبتت على قبره زهور النرجس. لكن والد (زهير) كان أبعد من أن تنبت وراءه هذه الزهور، بل الأشواك. 
لم يجد (زهير) من يتابعه في أداء فروضه وواجباته. كان تائها في مجرة حب أمه له، وبين جهلها في التعليم. لقد عاشت على أمل كبير كانت تقتات عليه بأنه سيعوضها في يوم ما، وبأنه سيكون سندها، والرجل الذي ستعتمد عليه. ولكن دوام الحال من المحال؛ فقضاء الله كان أقوى من أي شيء. ربما كان الموت هو النهاية الحتمية لقصته الحزينة. نهضت من مكاني، وتوجهت بخطوات متثاقلة إلى المطبخ. وضعت الخضار في حوض الغسيل، وأخذت أغسلها بعناية. قمت بتقطيعها لأحضر وجبة الغداء، وبلا شعور تدفق صوت إحدى المعلمات إلى أذني: 
ـ لا أستطع أن أحتمله في الفصل!
 ثم أشارت إليه وهي تخاطبني باستنكار:
- لقد قام برمي القلم على أحد زملائه! وحينما حاسبته على هذا التصرف، خرج من الفصل بلا استئذان، وعلى مرأى من جميع التلاميذ! 
رمقته المعلمة بنظرة حادة وهي تقول:
- أرجو أن تتعلم كيف تحترم معلمتك أولاً قبل دخولك إلى الفصل.
ثم خرجت من حجرة المكتب بسرعة. مرت لحظات ثقيلة من الصمت، كان يقف ببرود في منتصف الغرفة، وكأن الأمر لا يعنيه. حضرت المعلمة بعد ثوانٍ، وهي بصحبة التلميذ الآخر:
- لقد أحضرت لك سعيد.. اسأليه كيف تصرف معه في الحصة.
 اندفع (سعيد) يتحدث بانفعال:
- اقد طلب مني أن اعطيه قلماً ،فرفضت. فوجئت به يسحب القلم مني بقوة ويرميه على رأسي. 
تفحصت رأسه وقلت له:
- هل أصبت بأذى؟! هل تريد أن أحولك إلى ممرضة المدرسة؟ 
هز رأسه نفياً. 
جلست خلف مكتبي، وشبكت أصابع يدي أمام وجهي، وأنا أفكر بعمق. رفعت رأسي وأنا أتأمل (زهيرًا) بتمعن.
 قطعت حبل الصمت قائلة:
- لماذا تصرفت هكذا يا زهير؟!
 رمق زميله (سعيد) بنظرة نارية، ثم أشار إليه قائلاً:
- لقد طلبت منه قلماً لكنه قام بالتلفظ علي بألفاظٍ بذيئة.
قال (سعيد) بتوتر: 
- لم أكن أقصد.. أنت من اصريت على أن تأخذ مني القلم بالقوة!
 قاطعتهما:
- أيعقل هذا؟! هل تستحق القصة كل هذا العناء؟ لقد سببتما لنفسيكما مشكلة مع المعلمة، لموضوع بسيط، لا يستحق كل هذا. 
نهضت من خلف مكتبي وتوجهت إليهما قائلة:
-ياولديّ..أعلم أنكما تحملان في صدوركما قلوباً أنقى من الذهب، وطيبة لا حدود لها؛ نخوة، ورجولة، وذكاء. واستطردت:
- لماذا تفسدان صداقتكما بهذه التصرفات؟ أنا متيقنة تمامًا بأن قلبيكما لا يشعان إلا بالطهارة والنقاء. فلا تتركا المجال لهاذين القلبين أن يتأذيا
بسمات الكراهية والضغينة والعداء.
التفتت إلى (زهير) ونظرت إلى عينيه مباشرة:
 - بني.. أرجو أن تهتم بدروسك جيدا، وألا تسبب الأذى لزملائك. يتحتم عليك بأن تكسب معلماتك، لا أن تقلل من قيمتهن. في يوماً ما ستجد نفسك رجلاً مسئولاً عن أسرة، أنت تعرف جيداً قيمتك عند والدتك، لقد ضحت من أجلك الكثير، فلا تخيب أملها فيك.
 لانت ملامحه، وبقى صامتاً. وأضفت:
-بني. لقد أنعم الله علينا بنعمة العقل حتى نستطيع أن نميز بين الخير والشر. تعلّم أن تسامح، وألا تمد يدك لإيذاء زملائك وتذكر حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). صمت ولم ينبس ببنت شفة. تأملتهما لوهلة ثم قلت:
- أرجو أن تتعاملا مع بعضكما البعض في الأيام المقبلة بفطرة المحبة والخير التي زُرِعت في قلوبكم.
تأملتهما بتمعن ثم ابتسمت قائلة: 
- والآن، هل ستتصافحان أم لا؟
رمق كل واحد منهما الآخر بنظرة جانبية، مد (زهير) يده بتردد إلى زميله:
- أنا.. أنا آسف. 
صافحه (سعيد) وهو يقول:
- وأنا ايضاً.
 ابتسمت وأنا أقول:
- أحسنتما.. بارك الله فيكما. 
انقطع شريط ذكرياتي مع صوت جرس الباب، فتحته وإذا برجل يسلمني فاتورة الكهرباء. عدت إلى المطبخ، ووضعت القليل من الطعام في طبقي، وأخذت أمضغه ببطء. ارتشفت رشفة من الماء البارد، وتساءلت في أعماقي: ما الذي جعله يقود دراجته ليعبر الشارع السريع في تلك الليلة الباردة؟
هل كان يهرب من نفسه؟
 أم من قسوة أبيه؟
 أم من ظروفه الأسرية؟ 
أم من المسئوليات التي كانت ستقع على كاهله مستقبلاً؟؟
تذكرت بأنني قضيت مراهقتي في قراءة القصص والروايات. لم أتوقع يوماً بأنني سأعيش واقعا يجسد مثل هذه القصص المؤلمة، قصصاً محزنة، لم تكن أبدا كالتي كنت أقرأها في صباي. 
سأكتب قصص طلابي في يوم ما، أحزانهم ومعاناتهم، سأعبر عنهم كأفراد من مجتمعي المدرسي الذي عشت في ربوعه لمدة ثلاثين عاما، تماماً كما كتب الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو عن معاناة المجتمع الفرنسي، بعد سقوط نابليون بونابرت في روايته الأخاذة (البؤساء) آنذاك في القرن التاسع عشر.
ربما كانت كل هذه الظروف التي مر بها (زهير) هي حصيلة البيئة الخصبة التي أنتجت لديه السلوكيات الخاطئة، وكأنه يحمل شحنات غضب العالم بأسره،
فيقوم بتفريغها تجاه نفسه وزملائه ومعلماته.
بعد وفاته بيوم واحد، توجهت إلى بوابة المدرسة، رأيت والدته تجلس على المقعد، والدموع تنساب من عينيها بصمت، تتأمل بشرود توافد التلاميذ القادمين من منازلهم، وهم يجرون حقائبهم المدرسية. ايعقل أنها كانت تنتظره؟! 
كانت ملامح الأم ترسم التعاسة بعينها، بدت الخطوط المنحوتة على وجهها وكأنها شوارع وطرق متعرجة، تتوه روحها فيها، تشعر بالضياع والألم، لا تجد منفذا للهروب من واقعها المؤسف، أو أن تجد مرفأ ترسو إليه. اقتربت منها وجلست بقربها وأنا أتأملها بصمت. شعرت للحظة وكأن عقلها يصول ويحول في عالمٍ آخر،عالم وحيدها (زهير)، وردة القلب وزهرة الفؤاد، وكأنه العالم بأسره، بألوانه وجماله وعذاباته.
تأملت عينيها التائهتين، ووضعت كفي على كفها بصمت، فأبلغ كلام في هذه اللحظة هو الصمت. اغرورقت عيناها بالدموع وسالت بغزارة.
 تمتمت بشرود:
- إبني.. سيأتي! 
مرت دقائق ثقيلة، ارتفع صوتها قليلاً وهي تقول بصوت باكٍ: 
- سيأتي حتماً.
ضغطت على يد الأم مواسية، ثم قلت بصوت منخفض:
- أم زهير.. هيا يا عزيزتي، دعيني أذهب بك إلى البيت، لابد أنهم قلقون عليك.
انسابت دموع الأم على خدها بصمت. أمسكت كف الأم برفق، وأنا أساعدها على النهوض:
- هيا يا عزيزتي. 
نهضت الأم، وأخذت تسير إلى جواري ببطء، تجر قدميها جراً، متجهة معي إلى السيارة. كان صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، وبمرارة لا متناهية.
أجلستها بالمقعد الأمامي، وجلست خلف مقود السيارة، ثم أدرت المحرك متوجهة معها نحو منزلها. وما هي إلا دقائق حتى توقفت السيارة أمام البيت.
ترجلت من السيارة، وأمسكت يدها برفق، لأساعدها على صعود السلم. كان قديماً، يشكو من تصدع السنين. دخلنا إلى المكان، إلى منزل صغير، بسيط، وأثاث متهالك. وجدت نساء يجلسن في تلك الغرفة الصغيرة، وما أن رأينها حتى هرعن إليها بلهفة.
 هتفت إحداهن:
- أين كنت يا أم زهير؟ لقد قلقنا عليك كثيرًا!
جلست على إحدى الأرائك القديمة، وقدمت إحداهن لها كوباً من الماء.
أشاحت بوجهها وهي تبكي بحرقة، ثم تعالى صوتها بشكل يتقطع له القلب.
ربت على كتفها محاولة في أن أواسيها:
- أم زهير ابنك الآن يرتاح في عالمٍ آخر، اختاره له الله، ليجد السكينة والاطمئنان. تأكدي من ذلك.
ثم حملت حقيبتي الصغيرة قائلة: 
- أستأذنك.. أرجوك، اعتني بنفسك جيداً.
استفقت من أفكاري بغتة، واتجهت إلى شرفة شقتي. شاهدت الناس يصولون ويجولون، الشوارع مزدحمة، السيارات تعبر الطريق بسرعة فائقة، الأطفال يركضون في الحي بأرجلهم الحافية المتسخة بالطين، يضربون الكرة هنا وهناك، أستمع لضحكاتهم الطفولية، فهم الآن في أسعد اللحظات.
من الشرفة شممت رائحة الطبخ، لابد أنها تصدر من الشقة المجاورة، تقترب طيور الحمام لتبحث عن طعام أو ماء. وضعت القليل منها، لأجد الحمام تقترب منها، ثم
تتناولها بنهم.
من الشقة الأخرى، سمعت جارتي (سعاد) تصرخ من آلام المخاض.
تيقنت بأنه في زمان ومكان ما.. سيجد (زهير) العالم الذي سيرتاح فيه..
عالماً لا يجد فيه ضعفه في أن يحمي أمه.. ولا يجد فيه قسوة أبيه وأنانيته..
يجد فيه الراحة والاطمئنان والسكينة.. لأن رحمة ربه أوسع وأكبر من أي شيء..
ومن شقة جارتي (سعاد)، سمعت إحدى النسوة تصيح بفرح:
- الحمدلله..ولد!