+A
A-

في وداع الملكة إليزابيث.. بريطانيا بين التقليد والتجديد

اعتلت الملكة إليزابيث الثانية عرش بريطانيا لسبعين عاما، حيث بدأت عهدها ملكةً للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والخارجة منهكةً قبل سنوات من حرب عالمية مدمرة، وعاصرت 14 رئيس وزراء، 13 منهم هي كلفتهم بمهام تشكيل الحكومة وإدارة البلد، لكنها لم تتدخل قط في الشؤون السياسية، ليس قصوراً، بل احتراماً للنظام الديمقراطي، الذي تفخر بريطانيا بأنه نشأ وتطور على أرضها ثم انتقل شرقاً وغرباً.

برهنت الملكة الراحلة على قدرة استثنائية على تجاوز الصعاب، والتكيف مع الزمن، وبذلك حافظت على النظام الملكي، بل رسخت دعائمه وجعلته مقبولا ومحبوبا، ودفعت البريطانيين وباقي دول الكومنولث لاحترامه والتمسك به.

كانت ملكةً، ليس لدولة واحدة، بل لدول عديدة، تزداد أو تنقص حسب الظروف الدولية أو الوطنية، وعندما رحلت، كانت ملكة (ل 15) دولة، أولاها بريطانيا، و14 دولة أخرى، هي كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وجاميكا، وباربودا، وأنتيغوا، وبليز وغرانادا، وبابوا غينيا الجديدة، وسان كيتس ونيفيز، وسان لوسيا، وسان فينسانت، والغرينادينز، وجزر سولومون، وتافلو. كما كانت رئيسة لمجموعة دول الكومنولث، التي تضم 56 دولة مستقلة، بعدد سكان بلغ 2.4 مليار إنسان.

العاهل البريطاني يملك ولا يحكم منذ قرون عديدة، إذ تحددت سلطاته وأخذت تنتقل تدريجيا إلى البرلمان والحكومة التي يعينها، منذ أن سُن ميثاق "ماغنا كارتا"، أو ميثاق الحقوق، عام 1215م، والذي صاغه رئيس أساقفة كانتربري، الكاردينال ستيفن لانغتن، ووقعه الملك جون، ملك إنجلترا، وكان يهدف إلى تحقيق السلام بين الملك جون والنبلاء (البارونات) الثائرين على سلطته.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت سلطة الملك وصلاحياته محددة ومعروفة، وهو في العادة لا يتجاوزها رغم أن بإمكانه ذلك في بعض الأحيان.

الكاتب الإنجليزي، وولتر باغشوت، كتب في كتابه المعنون (الدستور الإنجليزي) الصادر عام 1867، أن الملك له ثلاثة حقوق في الملكية الدستورية، هي حق الاستشارة وحق التشجيع وحق التحذير.

وهذا ما مارسته الملكة الراحلة إليزابيث الثانية بهدوء ودون تصادم مع الحكومة حتى العام 1963، عندما تعرضت للانتقاد عند اختيارها السير إلِك دوغلاص هيوم لتشكيل الحكومة، إثر استقالة رئيس الوزراء، هارولد ماكميلان، ولم تختر نائبه، راب بتلار. القصر الملكي نفى أن يكون له دور في هذا الاختيار، الذي جاء على الأكثر بناءً على نصيحة من رئيس الوزراء المستقيل هارولد ماكميلان.

وكانت الملكة قد اختارت أيضا هارولد ماكميلان قبل ذلك، عندما استقال أنتوني إيدن إثر هزيمة السويس عام 1956.

المشكلة التي كانت تحصل سابقا هي أن حزب المحافظين البريطاني يفتقر إلى الشفافية في اختيار زعمائه، فكبار قادة الحزب يقدِّمون اسما إلى الملكة كي تختاره رئيسا للوزراء، ولأن العملية غير علنية، بدت الملكة وكأنها هي من يختار رئيس الوزراء وليس الحزب، والحقيقة هي أن الحزب ممثلا برئيس الوزراء المستقيل هو من يقدم الاسم إلى الملكة.

وبعد عام 1965، حذا حزب المحافظين حذو حزب العمال في جعل عملية اختيار الزعيم شفافة وعلنية وديمقراطية، كي يعرف الشعب كيف وصل الزعيم إلى سدة الزعامة، وما هي درجة التأييد التي يحظى بها.

أول رئيس وزراء تعاملت معه الملكة الراحلة بعد توليها العرش كان ونستون تشرشل، الذي كان متميزا في خبرته السياسية والعسكرية وشجاعته الاستثنائية، إضافة إلى أدبه وثقافته العالية، إذ كان حائزا على جائزة نوبل في الآداب.

ويذكُر المؤرخ البريطاني، ريتشارد ثورب، أن تشرشل قد أوصاها أن تستمع في بداية عهدها إلى رؤساء الوزارات الأكبر منها سنا والأكثر خبرة، بعد ذلك يمكنها أن تنصح رؤساء الوزراء اللاحقين بحكم تراكم الخبرة لديها عبر السنين.

وقد ذكر ثورب أن الملكة اعترفت بأنها تعلمت الكثير من ونستون تشرشل، وكانت معلوماتها تلك مفيدة لها أثناء لقاءاتها مع مارغريت ثاتشر أثناء حرب الفوكلاندز. لاحقا، تعاملت الملكة مع رؤساء وزارات ولدوا بعد توليها العرش، مثل توني بلير وغوردن براون وديفيد كاميرون وتريزا مي وبوريس جونسون.

كما يذكر ثورب، الذي ألف العديد من الكتب حول رؤساء الوزارات البريطانية، ومنهم سيلوين لويد وأنتوني أيدن وهارولد مكميلان وألِك دوغلاص هيوم، عن رئيس الوزراء العمالي الأول في عهد الملكة الراحلة، هارولد ولسون، قوله إن الملكة تُقدِّر عالياً رؤساء الوزارات الذين خدموا في الجيش وتنسجم معهم، لذلك كانت علاقتها قوية مع رئيس الوزراء العمالي، جيمز كالاهان، الذي خدم في البحرية البريطانية، كما فعل زوجها الأمير فيليب. ويذكر ثورب عن كالاهان قوله إن الملكة تتعامل بود مع رؤساء وزاراتها، لكنها لا تقيم صداقات معهم (Friendliness not friendship).

كان العاهل البريطاني يتمتع بصلاحيتين حصريتين، هما اختيار رئيس الوزراء وحل البرلمان. لكن هاتين الصلاحيتين لم تمارسهما الملكة إليزابيث، إلا بعد نصيحة من الحزب في الأولى، ومن رئيس الوزراء في الثانية.

وإن كانت قد بدت وكأنها تختار رئيس الوزراء، خصوصا عندما كلفت هارولد ماكميلان وألِك دوغلاص هيوم بتشكيل الحكومة، فإن مثل هذا الإجراء لم يعد ممكنا بعد عام 1965 عندما أقر حزب المحافظين نظاما داخليا له ينظم انتخاب الزعيم.

كذلك فإن "قانون تحديد فترة الولاية" لعام 2011، الذي سنته حكومة ديفيد كاميرون، قد سلب فعليا من الملك حق حل البرلمان، لأن هذا القانون حدد ولاية البرلمان بخمس سنوات، تنتهي ذاتيا بعد انقضائها، لكن الملك يجب أن يؤكد حل البرلمان عندما ينصح بذلك رئيس الوزراء قبل انقضاء ولايته المحددة بخمس سنوات.

تمتعت الملكة الراحلة بعلاقات جيدة مع كل رؤساء الوزارات في عهدها، ربما باستثناء أدوارد هيث، الذي كانت العلاقة معه صعبة كما يصفها ثورب، لأن لديه رؤية مختلفة حول وجهة بريطانيا المستقبلية، إذ كان يسعى لأن تتكامل بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، وهو مسعى يتعارض مع رؤية الملكة، التي تود التركيز على دور بريطانيا القيادي في دول الكومنولث وليس في أوروبا.

توني بلير وديفيد كاميرون كان لديهما توجه أوروبي أيضا، لكنهما حكما في عهد متأخر، عندما أصبحت فكرة التقارب مع أوروبا مقبولة لنصف الشعب البريطاني على الأقل.

تميزت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية بشخصية محببة، نالت إعجاب معظم قادة العالم وشعوبه، ناهيك عن الشعب البريطاني الذي يجلُّها، وقد زارت مئة بلد أثناء عهدها، واستُقْبلت رسميا وشعبيا بحفاوة بالغة. والتقت بكل الرؤساء الأميركيين، ما عدا ليندِن جونسن الذي أغضبته سياسة بريطانيا تجاه كوبا وتعاملها التجاري معها وبيعها ألف حافلة في عهد رئيس الوزراء العمالي، هارولد ويلسون.

ومما يحسب للملكة الراحلة أنها كانت دائما تتحسس مشاعر الناس، ولم تعِش في قصر عاجي، منعزلة عن مواطنيها.

في تسعينيات القرن الماضي مثلا، أثيرت قضية عدم دفع العائلة المالكة للضرائب، وهو تقليد يعود إلى قرون خلت عندما كان الملك يملك ويحكم، وعندما كانت الضرائب تُجبى له. لكن العاهل صار، منذ عدة قرون، يملك ولا يحكم.

وقبل أن تتطور القضية وربما تخضع للنقاش في البرلمان، وتلقي بظلالها على سمعة العائلة المالكة، أعلنت الملكة أنها سوف تدفع الضرائب، كباقي أفراد الشعب، وقد حظي قرارها بإعجاب الجميع، بمن فيهم القلة الذين يعارضون النظام الملكي.

ولي العهد، الأمير تشارلز، الذي صار الآن ملكا، هو شخصية متميزة من نواح عدة، ثقافية ومهنية وعسكرية وفنية. ولدى تشارلز اهتمامات بأنواع مختلفة من الفن والعمارة، كما خدم ضابطا لخمس سنوات في القوتين الجوية والبحرية البريطانيتين.

اهتم الأمير تشارلز بفن العمارة، رغم تخرجه من جامعة كامبردج في علم البشريات (الأنثروبولوجيا)، وأبدى أراءً جدلية في العديد من القضايا من البيئة إلى الصحة إلى المشاريع العمرانية، بل حتى في الأشخاص المكلفين بترميمها أو إنشائها. اعترض مثلا على توسعة المتحف الوطني، واعترض أيضا على ترميم "ثكنة تشالسي"، وكَتَبَ للقائمين عليها بأن اختيارهم للمعمار والمصمم الحداثوي، ريتشارد روجرز، غير موفق. لكنه وعد في مقابلة تلفزيونية قبل أربع سنوات بأنه لن يتدخل في القضايا التي تدخل فيها سابقا عندما يصبح ملكا وقال إنه سيسير على خطى والدته.

اهتم الأمير تشارلز بالأحياء الفقيرة وزار عددا منها واقترح طرقا لتطويرها وجعلها أكثر ملائمة للعيش. ولدى تشارلز نزعة عصرية لتطوير النظام الملكي، وقد عبَّر عن ضرورة تغيير صفة الملك البريطاني من (حامي الدين) إلى (حامي الأديان) باعتبار أن المجتمع البريطاني الآن متعدد الأديان والثقافات والعقائد والمشارب والإثنيات. لكن صورته تأثرت سلبا بعد خلافه مع زوجته الراحلة الأميرة المحبوبة دايانا ثم تطليقه إياها، وإعادة علاقته المقطوعة بصديقته السابقة، كميلا باركر-بولز، التي تزوجها عام 2005، لكن هذه القضية لم تعد تستقطب اهتمام الناس لأنها أصبحت تأريخاً قديماً.

أهم ما يميز النظام الملكي البريطاني هو القدرة على التكيف، رغم التمسك الظاهري بالتقاليد، ولا شك أن الملك تشارلز، الذي يحمل فكرا عصريا متطورا، سوف يجدد النظام ويزيل العديد من العقبات التي تحدت الزمن بحجة المحافظة على التقاليد، وسوف يجعل الملكية متسقة مع العصر وذات علاقة بحياة الناس.

وضمن حسابات الربح والخسارة، تعتبر العائلة المالكة مصدرا مهما من مصادر الدخل في بريطانيا، إذ تمثل الآثار والقصور والمباني الأثرية والتقاليد الملكية معالم رئيسية يؤمها السياح من مختلف أنحاء العالم، وهذا يشكل إيرادا مهما يعزز الاقتصاد البريطاني.

لا شك أن غياب الملكة إليزابيث الثانية، التي أَلِفَ البريطانيون شخصيتها المحببة منذ سبعين عاما، هو نهاية عصر مليء بالأحداث والذكريات التي ارتبطت بشخصية الملكة الراحلة، لكن اعتلاء الأمير تشارلز، الذي هو الآخر، أمضى أطول فترة في منصب ولي العهد، يبشر بعصر جديد طابعه التطور والتجديد، لما عرف عنه من إقدام على فعل ما يراه مناسبا بغض النظر عن التقاليد السائدة.

هل سيملأ الملك تشارلز الثالث الفراغ الذي تركته أمه؟ لا، لن يستطيع، لكنه سيخلق حيزا خاصا به وسوف يعمل على ترسيخ النظام الملكي بطريقته الخاصة، مهما تطلب ذلك من جهود وافتراق عن التقاليد. لكن الشيء المؤكد أن الملك تشارلز لن يتدخل في الشؤون السياسية لأن مثل هذا التدخل سيكون مرفوضاً وسيخلق له مشاكل هو في غنى عنها.