العدد 5130
الإثنين 31 أكتوبر 2022
banner
ريادة الأعمال وبناء حضارة المستقبل: التعليم
الإثنين 31 أكتوبر 2022

ماذا يجعل من بعض البلدان أفضل من الأخريات في مجال ريادة الأعمال وبناء المشاريع واستقطاب الاستثمارات؟ ما هي أهم المقومات التي ترتقي إليها الحكومات الذكية؟ وما هي السياسات التنموية التي تطبقها لنهضة اقتصاداتها وتمكين بيئة ريادة الأعمال لديها؟ وكيف يمكن بناء حضارة المستقبل بناءً على تعزيز التقدم في مجال ريادة الأعمال؟ من خلال حلقات هذا المقال، سوف يتم التطرق إلى المقومات التي يمكن من خلالها الدفع بعملية التطور في مجال ريادة الأعمال والاستنباط من أهم الدراسات العلمية والتجارب العالمية للاستفادة منها. 
أولًا، ما يميّز الدول المتقدمة عن الدول الناشئة وغيرها من الدول النامية وخصوصًا في التطور الهائل في مجال ريادة الأعمال هو عنصر التعليم، العنصر الذي لا يتجزأ من استراتيجيات هذه البلدان ومن منطلق بناء الإنسان الحديث والبيئة التي يمكن من خلالها تطوير ريادة الأعمال والمشاريع. فللتعليم تأثير كبير على تعزيز ريادة الأعمال والتنمية الاقتصادية. لذلك، فهو نشاط هادف حيث يشارك الشخص من خلاله في عملية اكتساب المعرفة والمهارات من خلال التعلم والتدريب. على الرغم من أن التعليم الثانوي يعد خطوة حاسمة للطلاب لاستكشاف الخيارات والإمكانيات المهنية المختلفة، إلا أن التعليم الجامعي يجب أن يمنحهم المهارات اللازمة للتميز في مجال معيّن من مجالات العمل كموظفين أو أصحاب أعمال في مختلف قطاعات الاقتصاد. 
تؤكد العديد من الدراسات على ضرورة تطوير التعليم بشكل مستمر، ففي إحدى الدراسات، استنتج أحد الباحثين في مجال ريادة الأعمال أن التعليم الجامعي يمكن أن يوفر المهارات المعرفية لرواد الأعمال للاستفادة بشكل أفضل من فرص الأعمال مع زيادة مستوى الثقة بالنفس وتقليل المخاطر المتصورة. ثانيًا، هناك حاجة إلى التحسين المستمر لمستويات التعليم الثانوي والجامعي من خلال تحسين المناهج الدراسية، وفرص التعلم، وزيادة جاذبية أنشطة ريادة الأعمال الرسمية. 
 وبالتالي، يصبح التعليم الجامعي مهمًّا لأولئك الذين يطمحون للنجاح في الحياة التجارية. لذلك، فإن رواد الأعمال والمبتكرون في جميع أنحاء العالم قد أكملوا على الأقل تعليمًا جامعيًّا قبل بدء عمل تجاري. وعلى الرغم من نمو البرامج التعليمية والتدريبية لريادة الأعمال في جميع أنحاء العالم، لا تزال هناك حاجة لتطوير دورات ريادة الأعمال للسماح للطلاب بتجربة سوق الحياة الواقعية وكيفية قيام رواد الأعمال بأنشطتهم التجارية اليومية. يساعد ذلك الطلاب على تطوير مواقفهم تجاه ريادة الأعمال، لا سيما حول كيفية بناء وتنمية الأعمال التجارية فيما يتعلق بفهم احتياجات وسلوكيات المستهلكين. 
 ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكن تطوير التعليم بما يتناسب مع احتياجات الحياة العصرية والمستقبلية؟ ويكمن الجواب هنا في أهمية التركيز في موضوع البحث والتطوير الذي ينال اهتمام الدول المتقدمة بشكل كبير خصوصًا مع تخصيص نسبة استثمار الدول في مجال البحث والتطوير لا يقل عن 2 % بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، والذي سوف يتم التطرق إليه في الحلقات القادمة من هذا المقال.
 وسنطرح هنا مثالًا لدولة تميّزت عن غيرها وأقرانها من الدول المتقدمة في مجالات التعليم وريادة الأعمال رغم صغر حجمها، وهي دولة سنغافورة. لدى سنغافورة اقتصاد رأسمالي وسوق حر متطور وناجح. وتتمتّع ببيئة منفتحة وخالية من الفساد، وأسعار مستقرة، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها أعلى من بكثير من معظم البلدان المتقدمة. البطالة في سنغافورة منخفضة جدًّا ويعتمد الاقتصاد بشكل كبير على الصادرات، لا سيما الإلكترونيات والمنتجات البترولية والكيماويات والأجهزة الطبية والبصرية والمستحضرات الصيدلانية، وعلى قطاعات النقل والأعمال والخدمات المالية. يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة حوالي 531.04 مليار دولار.
يعد النظام التعليمي في سنغافورة من بين الأفضل تصنيفًا في العالم في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، كان للتعليم، بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى، الفضل في جعل سنغافورة البيئة الأفضل لريادة الأعمال واستقطاب الاستثمارات الخارجية. ومن أحد العوامل التي تجعل المستثمرين يهتمون بسنغافورة كأفضل ملاذ للاستثمار هو جودة الموارد البشرية وتعليمهم بشكل خاص، ففي آخر الإحصائيات لعام 2022، تم الإعلان عن 142 مشروعًا بقيمة 8.2 مليار دولار أميركي في الأشهر السنة الأولى لعام 2022، واستثمار أجنبي مباشر تجاوز الـ9  مليارات دولار أميركي.
 في المجال الأكاديمي، حقق نظام التعليم في سنغافورة نجاحًا باهرًا مما عزّز من اقتصادها المزدهر وجاذبيتها التجارية، وتجلّى الأمر خلال جودة تعليم قواها العاملة. 
قد يتساءل صناع القرار، ما هي الصيغة السرية لسنغافورة لمثل هذه السياسات التعليمية؟
في مراحل ما قبل الدراسة الجامعية، يتم تسجيل الطلاب في مدارس حكومية أو خاصة. ويتم التركيز على نظام “التدفق” أو بما يسمى بالـ Streaming، الذي يتضمّن امتحانات منتظمة، يصنّف الطلاب في برامج أكاديمية مختلفة بناءً على نقاط قوتهم الأكاديمية. في السنوات الأولى، يخضع تلاميذ المدارس الإعدادية لامتحان PSLE ليتم فحصهم بشأن اكتساب المهارات العددية والقرائية والعلمية الأساسية. بناءً على نتائج PSLE، يتم تصنيف الطالب إلى ثلاثة تدفقات: أولاً، Express Stream للطلاب الحاصلين على أعلى الدرجات من جانب واحد، وNormal-Academic Stream  أو Normal  Technical للباقي. تم تصميم Express Stream لذوي التعلم السريع والمكثف، في حين أن التدفقات العادية مناسبة للمتدربين المتوسطين أو أولئك الذين يرغبون في التخصص في مجال أكثر تقنية. في السنوات اللاحقة، يخضع تلاميذ المدارس الثانوية بعد ذلك امتحانات المستوى، وتحدد نتائج امتحانات المستوى الكليات التي سينضم إليها الطلاب المؤهلون. تعتمد خيارات التخصص الإضافي على القرارات الفردية للطالب، اعتمادًا على تطلعاته المهنية وإنجازاته الأكاديمية. ويجدر بالذكر أنه في بعض البلدان، يتم فصل الطلاب ذوي التحصيل الأكاديمية A+ عن هؤلاء ذوي التحصيل الأقل، مما يعزّز التنافس بين الطلاب وتعزيز الاهتمام بطلبة النخبة والطلبة الذين يحتاجون لرعاية مختلفة عن أقرانهم.
في الحلقة القادمة من هذا المقال، سنكمل إلى أهم العوامل التي جعلت من النظام التعليمي في سنغافورة متطورًا بشكل انعكس إيجابًا على اقتصادها وفي مجال ريادة الأعمال الخاصة بها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية