العدد 5137
الإثنين 07 نوفمبر 2022
banner
ريادة الأعمال وبناء حضارة المستقبل: التعليم (2)
الإثنين 07 نوفمبر 2022

 تناولنا في الجزء الأول أهمية التعليم في تعزيز ريادة الأعمال ورفع مستوى جودة ومهارة القوى العاملة وإنتاجيتها بما في ذلك تأثيره في خفض مستوى البطالة وتعزيز النمو الاقتصادي، وسنتطرق في هذا الجزء إلى العوامل التي جعلت من نظام التعليم في سنغافورة ناجحاً على الرغم من صغر مساحتها ومواردها الطبيعية، ومن هنا نتناول خمسة عوامل مهمة:
أولاً، الدوافع الاجتماعية والاقتصادية: كانت هناك رغبة ملحّة من قبل لي كوان يو الذي شغل منصب رئاسة الوزراء بين 1959 - 1990 في تنمية رأس المال البشري السنغافوري، ظَلَّ التعليم أولوية قصوى بالنسبة للحكومات المتعاقبة في سنغافورة منذ تأسيسها في العام 1965. وقد أدركت الأسر السنغافورية الدور الأساسي الذي يلعبه التعليم في نجاح أبنائهم، وتعاونوا مع قادة الأمة في تنمية قوة عاملة متعلمة. نتيجة لذلك، عززت سنغافورة من جودة التعليم من خلال التطوير المستمر في تعزيز التعليم والمناهج وطرق التدريس التي تمكنهم من تحسين العنصر البشري باستمرار.
ثانياً، اتخاذ السياسات التعليمية الفعالة: كيف يمكن تطبيق السياسات الفعالة؟ على عكس العديد من البلدان في العالم المتقدم والنامي، اعتمدت سنغافورة نهجاً مرناً نحو بناء سياساتها التعليمية، حيث لا تطبق أي سياسة دون إجراء دراسة وبحث واختبار شامل (نرجع هنا إلى أهمية البحث والتطوير في صنع القرار السياسي في سنغافورة)، للتأكد من أن أي تغييرات حاصلة سوف تكون مضمونة بالنجاح قبل وضعها موضع التنفيذ. بالإضافة إلى تضافر جميع أصحاب المصلحة فيما يطلبه أولياء الأمور، وما يحتاجه المعلمون، وما يمكن أن يعزز به قدرات الطلاب. لذلك، فإن السلطات والمدارس وأولياء الأمور والطلاب ككل يتشاركون في فهم مشترك حول معنى التعليم. نتيجة لذلك، يصبح التحدي المتمثل في صياغة وتنفيذ السياسات الفعّالة أوضح وأسهل. والأهم من ذلك، فسنغافورة لا تقوم بتقليد سياسات التعليم في البلدان المتقدمة، بل كما ذكرنا فإنها تعتمد على عنصر البحث والتطوير في انتهاج أفضل السياسات التعليمية مما جعلها الدولة الرائدة ليس فقط في مجال التعليم، بل في صنع قوى عاملة متعلمة ومتخصصة يمكن الاعتماد عليها من قبل الشركات التي تقوم بتوظيفهم في مختلف قطاعات الدولة.
ثالثاً، جودة المناهج العلمية: تميل المناهج الدراسية الوطنية في سنغافورة إلى تخصيص المزيد من الوقت لإتقان المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا. لا يوجد انحراف كبير فيما يتم تدريسه في سنغافورة وما يتم تطبيقه في الحياة العملية وما يحتاجه أصحاب العمل عما هو موجود في الكتب المدرسية وأوراق العمل والامتحانات النهائية. الفصول الدراسية موجهة نحو مساعدة الطلاب على اجتياز الاختبارات في هذه المواد الأساسية، لأنها عملية ويطلبها أصحاب العمل في الأساس. نتيجة لذلك، يفضل مطورو المناهج في سنغافورة تعميق الفائدة وجودة المادة التي يتم تدريسها، بدلاً من مجرد حقن كميات كبيرة من المعلومات غير المتصلة بالحياة الواقعية كما يحصل في العديد من البلدان النامية. كذلك، للطلاب الذين يقل تحصيلهم الأكاديمي عن المستوى المطلوب، يتم إعطاؤهم دروساً إضافية لمساعدتهم على اللحاق بأقرانهم، ويتم تقديم كل أوجه المساعدة بدلاً من تجاهلهم كلياً.
رابعاً، استقلالية المعلم: يتمتع المعلم في سنغافورة باستقلالية في اختيار الأساليب التي يختارها في تعليم طلابه، مما يجعله مبدعاً ومبتكراً في تطبيق أفضل أساليب التعليم وتطوير إستراتيجيته وتقنيات التدريس الخاصة به. ويرجع السبب هنا أن صناع القرار في سنغافورة يهتمون بمواهب المعلمين ويثقون في قدراتهم مما أدى إلى امتلاك سنغافورة كادراً متميزاً من المعلمين. وقد أثبتت العديد من الدراسات لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن التطوير المهني الفعال يتطلب إعطاء المعلمين استقلاليتهم الكافية وتوفير الفرص والموارد اللازمة لتنمية ذاتهم وأن تطرح أنشطة التطوير المهني ضمن واجبات المعلم اليومية، الأمر الذي يمكن أن يوفر له بيئة عمل جاذبة وأمان وظيفي لتطوير نفسه باستمرار.
واستكمالاً لما سبق، ربما يكون من أحد أكبر العوامل وراء قصة النجاح التعليمي في سنغافورة هو جودة التدريب الذي يتلقاه المعلمون. فقط أعلى 5 % من الطلاب المتخرجين مؤهلون لدخول التدريس ويتم تقديم التدريب مركزياً من قبل المعهد الوطني للتعليم. في المتوسط، يتلقى المعلمون أكثر من 100 ساعة من التعليم كل عام ويخضعون لتقييم أداء صارم لمراقبة تقدمهم. كما يحصل المعلمون في سنغافورة على رواتب ممتازة، يتجاوز بكثير متوسط رواتب المعلمين في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. يمكن للمعلمين المتميزين المطالبة بمكافآت أكبر لتميزهم في التدريس. وهذا يجعل التدريس خياراً وظيفياً جذاباً لأكثر الموهوبين في البلاد على عكس العديد من البلدان المتقدمة والنامية التي يقل فيها جاذبية الأشخاص لمهنة التعليم. كما أن ساعات التدريب السنوية والمكافآت تجعل المعلمين السنغافوريين ينقلون مواهبهم إلى أجيالهم المتعاقبة.
يمكن الاستنتاج مما سبق أن التعليم وريادة الأعمال جزءان لا ينفصلان عن بعضهما البعض، كما أن نوعية التعليم التي تتمتع بالجودة يمكن أن تسهم في تسهيل توظيف المتخرجين الجدد وارتفاع معدل إنشاء الشركات التجارية، وأن انخفاض جودة التعليم يمكن أن يسبب البطالة الاقتصادية ولجوء العديد من الشركات في الدولة إلى استقطاب القوى العاملة الخارجية بسبب انخفاض جودة تعليم ومهارات القوى المحلية، كذلك لجوء الوكالات الحكومية لتقديم التدريب للمتخرجين الجدد لأن التعليم لم يوفر لهم ما يحتاجه سوق العمل. لذلك، فإن التعليم يعتبر من المقومات الأساسية لريادة الأعمال، ويعزز عنصر البحث والتطوير جودة المناهج وحصص التدريب وتطبيق سياسات التعليم الفعالة التي تنعكس إيجاباً على اقتصادات الدول. 
في الجزء القادم من هذا المقال، سنستذكر أهمية “البحث والتطوير” في تعزيز ريادة الأعمال في مختلف قطاعات الدولة، كذلك الدروس التي تقدمها سنغافورة في هذا الشأن.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .