العدد 5149
السبت 19 نوفمبر 2022
banner
بوتين وبؤس الفلسفة الدوغينية
السبت 19 نوفمبر 2022

خلال شهر أغسطس الماضي، اُغتيلت ماريا دوغين، ابنة "الفيلسوف" الروسي القومي ألكسندر دوغين، في حادث تفجير متعمد لسيارة والدها التي كانت تسوقها بمفردها، ودفع هذا الحادث وسائل الإعلام العالمية لا إلى تسليط الضوء عليه فحسب، بل لاستغلاله أيضاً لتسليط الضوء مجدداً على شخصية والدها دوغين، وسبب استهدافه من قِبل الاستخبارات الأوكرانية، فلم يكن دوغين في واقع الحال - بأفكاره القومية المتطرفة - بعيداً عن فكرة غزو أوكرانيا التي كانت تختمر في عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ رئاسته الأولى مطلع الألفية، وإن كان ما اُنجز عسكرياً حتى الآن لا يرقى إلى غزو أوكرانيا بأكملها.
ومع أن دوغين الذي يروّج له على نطاق واسع في الإعلام الغربي، منذ أوائل العقد الماضي، بأنه "عقل بوتين" وساعده الأيمن في الاستشارات واتخاذ القرارات المهمة، إلا أن هذا الأخير وإن كان يتبنى أفكاراً قومية تلتقي في معظمها مع هوى وأفكار دوغين، إلا أنه حرص في الغالب على ترك مسافة بينه وبين دوغين، دون أن يتخذ منه رسمياً مستشاراً أو مفكراً يشاركه في صنع قراراته المهمة، وهذه طبيعة كل دكتاتور قوي متفرد في قراراته. 
يرى دوغين في نفسه منظّراً لفلسفة جديدة جديرة بأن تتبناها بلاده روسيا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، كبديل عن الفلسفة الماركسية التي قام عليها النظام الاشتراكي السابق طوال سبعين عاماً، ويطلق على فلسفته "النظرية الرابعة"، كما يرى أن هذه النظرية ملائمة تماماً لطبيعة وخصائص الشعب الروسي، وذلك كبديل عن النظريات الثلاث: الشيوعية والفاشية القومية والليبرالية، واللاتي تصارعت طوال القرن العشرين، وانتصر التحالف "الليبرالي - الشيوعي" في الحرب العالمية الثانية على النازية والفاشية، ثم انتصرت الليبرالية على الشيوعية أواخر القرن، لكن العالم تتسيده الآن آيديولوجيا واحدة هي الليبرالية، وهذه آيديولوجيا استعمارية لا تلائم قيم وثقافة وتقاليد الشعب الروسي الأرثوذكسية - حسب تعبير دوغين - الذي يبدي رفضه أيضاً لقيم الغرب عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويعيب عليه دفاعه عن المثليين، كما يرى أنه ينبغي على كل شعب أن يتبنى نموذجه الحضاري المستقل بمعزل عن الغرب؛ إذا ما أراد الوصول ببلاده إلى عالم "متعدد الأقطاب" في مواجهة القطب الحالي المهيمن ممثلا في الولايات المتحدة.
على أن المفارقة غير الواقعية في الفكر الدوغيني، أو فيما أسماها "النظرية الرابعة" إنما تكمن في أوهام نزعته التوسعية فيما يسميه "الفضاء الأوراسي"، وهو فضاء دول أوروبا الشرقية الاشتراكية السابقة وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، والتي يرى أنها مهيئة جميعها لتقودها روسيا من جديد حسب مشروعه الفكري، لكن ليس تحت راية "النظرية الماركسية" هذه المرة التي سبق أن انتقدها وحمّلها مسؤولية انهيار الاتحاد السوفييتي، بل تحت راية أفكار نظريته الجديدة التي يعتبرها بمثابة خشبة الخلاص لروسيا والدول "الأوراسية" جمعاء. أما كيف افترض بأن شعوب تلك البلدان ستنخرط طواعيةً في مشروعه الفكري الجديد تحت قيادة بلاده، فهذا ما لا يجيب عليه "مفكرنا"، بل لا يكترث أصلاً بتحليله تحليلاً موضوعياً مٌقنعاً! وهو لا يخفي أيضاً نظرته إلى أوكرانيا ككيان مصطنع أو "شبه دولة" اختلقها "الناتو" وسلخها عن روسيا، ومن ثم وجب إعادة ضمها بالكامل إلى الحظيرة الاُم. كما لا يتوانى عن إعلان ثقته المطلقة بانتهاء المعركة الحالية التي تخوضها بلاده في أوكرانيا بانتصارها المحتوم، وأن الهزيمة غير واردة البتة في قاموس روسيا التي ستقاتل فيها حتى الرمق الأخير، ملمحاً باستخدامها السلاح النووي؛ إذا ما هُوجمنا به -على حد تعبيره - من "الناتو"! مضيفاً: "إن وجود البشرية بدون روسيا قوية ذات سيادة أمر محال". ويعكس الرثاء الذي عبّر عنه في مقتل ابنته ماريا فكره المشبع بالعظمة القومية الروسية: "لا تتوق قلوبنا إلى الثائر أو الانتقام، وهذا تافه تماماً وغير روسي للغاية، إننا بحاجة إلى انتصارنا، فعلى مذبح النصر ضحت طفلتي بحياتها". ويمكننا أن نستخلص من خطاب الرئيس بوتين في نهاية سبتمبر الماضي بمناسبة تصديقه على ضم الأقاليم الروسية الأربعة، دونيتسك ولوغانسك وزابورجيا وخيرسون التي انسحبت قواته منها مؤخراً، بأنه واحد من أكثر خطبه تعبيراً عما يلتقي فيه مع الفكر الدوغيني.
وهكذا فبدلاً من أن يتبنى هذا "الفيلسوف" الجديد على الأقل، أفضل ما في الليبرالية والاشتراكية من قيم إنسانية في الحرية والمساواة، وجدناه يروّج لفلسفة بائسة من الأفكار القومية الشوفينية السطحية، هي أبعد ما تحتاجه روسيا اليوم لإعادة بنائها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بل وأبعد من أن تكون جاذبة لشعوب جمهورياته السابقة وبلدان فضائه "الأوراسي"! كما لا يخفي دوغين إعجابه الشديد بالنظام القيصري السابق الذي أطاحته ثورة البلاشفة 1917، والاعتزاز بأمجاد القيصرية التاريخية وأمجاد الاتحاد السوفييتي العسكرية على السواء، حتى مع اختلافه آيديولوجياً مع هذا النظام الأخير!.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية