نعلم أن الوجه هو أول علامات رسم الانطباع عن الآخرين، ومنه تنطلق انبعاثات القبول والارتياح، ومعه تبدأ ذبذبات التوافق في صناعة ذاك الشعور الجميل، وتتعدد دروس علم النفس في تحليل تعابير الوجه التي تستدعي أن نقف أمامها، كما في التحليلات المتعلقة بمفهوم “الوجه الآخر” الذي نردده في الكثير من المواقف، خصوصًا في تلك المواقف التي يتعرض من خلالها الفرد إلى الاستفزاز الناتج عن ضعف التواصل مع الآخر وعدم الاستجابة الفورية لرد حازم للمواقف وغيرها من أمور.
وكما يرى العديد من الباحثين بأن هذا المفهوم هو مفتاح الكشف عن شخصية الآخر، من منطلق وجود عدة شخصيات للإنسان تظهر من خلال وجوه متعددة تحكمها التفاعلات بين الجينات الوراثية والإرث الحضاري وثقافة الشخص والظروف البيئية، فكلما تآلفنا نحن البشر مع بعضنا البعض، حتمًا سنجد وجهًا آخر يمر بيننا في مواقفنا الحياتية، هذا الوجه لم نكن نألفه إطلاقًا، لأنه غالبًا ما يكون مختفيًا وراء أقنعة متنوعة هنا وهناك، وحيث إنها تختلف أحيانا عن الشخصية الحقيقية لكنها وإن اعتدنا عليها فقد لا نرتضي بغيرها، وربما لا نألفها مهما كانت نسبة التوازن في الصورة الحقيقية، وأنا لا أقول ذلك عنوة، بل إنني مازلت في إطار تلك التحليلات التي جعلتني أتذكر عبارة نرددها كثيرًا بقدوم أي مولود جديد، والتي تقول “الأطفال لهم أكثر من وجه”، أو “الأطفال كل يوم لهم وجه جديد”، لذلك من الجلي بنا أن نعي حقيقة التأثير الذي نحدثه على الآخرين بتعبيرات الوجه وامتزاجها مع ما نمتلك من خبرات كي تكون المؤثر الرصين لإحداث الأثر المرغوب.
وبما أن الكثير من الأشياء لها وجهان كما في العملات المعدنية فإننا غالبًا وإن لم نرتض وجهًا منها، فإننا نطالب بالوجه الآخر، بل ربما نقلب الوجوه بحثًا عن “الوجه الآخر”، وفي ذلك تأكيد بأن للإنسان - منذ الصغر - أكثر من وجه. ما أردت الإشارة إليه اليوم أعزائي القراء يرتبط بمدى وقوفنا وتفاعلنا أمام الوجوه المختلفة، فالعديد من القضايا حولنا تكون لها الكثير من التفسيرات والتأويلات ومن أكثر من وجه، إذا أردنا أن نتقبل الاختلاف ونبعد الخلاف فإن لم يعجبنا وجه علينا الأخذ بوجه غيره، وإذا كان الظاهر أمامنا لا يلامس الحقيقة المعتادة فنعلم أن أمامنا “الوجه الآخر”.
* كاتبة بحرينية