العدد 5156
السبت 26 نوفمبر 2022
banner
فرنسا 1968
السبت 26 نوفمبر 2022
قبل أربعة أعوام، وفيما العالم منشغل بأحداث جسام متسارعة، مرت في صمت الذكرى الخمسين على أكبر الانتفاضات الطلابية في تاريخنا المعاصر، ألا وهي الانتفاضة الطلابية الجامعية الفرنسية في مايو 1968، والتي انطلقت من جامعة السوربون بقلب عاصمة الأنوار، ثم عمت سائر الجامعات، وجذبت النقابات والحركات العمالية، وشاركت فيها صفوة المثقفين والفنانين. ومازالت زاخرة بالعِبر والدروس، ليس على الصعيد الفرنسي فحسب، بل وعلى الصعيدين الغربي والعالمي، وبضمنه عالمنا العربي. كان العام 1968 حافلا بالتحولات الفكرية والمساجلات، عربياً جرت واحدة من أعظم المظاهرات الطلابية المصرية بعد نكسة 1967، حيث تفاجأ الرئيس الراحل عبدالناصر باحتجاجها على الأحكام المخففة بحق ضباط الطيران المسؤولين عن النكسة، بعدما كان هؤلاء الطلبة في مقدمة من جددوا الثقة فيه، مطالبين إياه بالبقاء في الحكم غداة الهزيمة، رغم إعلانه في خطاب التنحي عن مسؤوليته وحده عن الكارثة، ولم تكن احتجاجاتهم في 1968 سوى تعبير عن حدوث انعطاف نحو اليسار شهدته معظم الحركات القومية العربية في ذلك العام، ولتتنامى بذلك الحركة الطلابية المصرية بهذا الاتجاه بعد رحيله، ولتتفجر مرة أخرى بالغضب العارم 1972 و1973 احتجاجاً على تباطؤ خلفه أنور السادات في شن معركة تحرير سيناء، والتي لمّح عبدالناصر بخوضها في 1971، ومن ثم تزايد ميوله للحلول السلمية بالتقارب مع أميركا. وفي العام نفسه 1968 جرت أكبر الاحتجاجات الشبابية الأميركية ضد التجنيد الإجباري للحرب العدوانية الأميركية على الشعب الفيتنامي وما يرتكب بحقه من جرائم حرب، وفي أغسطس من العام نفسه جرت أقوى محاولة إصلاحية معتدلة من داخل أحد الأنظمة الاشتراكية (النظام التشيكوسلوفاكي) وكانت أقل بكثير من سقف إصلاحات البيروسترويكا التي قام بها جورباتشوف آخر رئيس سوفييتي، لكن دبابات بلاده سحقتها بقوة في تدخل سافر غير مسبوق. مهما يكن من أمر، فإن الانتفاضة الطلابية الفرنسية التي فاجأت هي الأخرى الرئيس شارل ديجول، واستقطبت العمال أيضاً بالانضمام إليها باحتجاجاتهم، إنما كانت ضد الرأسماليتين الفرنسية والأميركية، وبفعل تراكمات من المصاعب الاقتصادية وركود اقتصادي لا سابق له جراء تقلص المستعمرات الفرنسية في آسيا وأفريقيا، وخسارة الجزائر بانتصار ثورتها 1962 والتضييق على الحريات. ورغم إخماد جذوة الانتفاضة، بالقمع والاحتواء والحيل بمنح الطلبة والعمال مكاسب جزئية، وإجراء انتخابات برلمانية في يونيو 1968، وتمكن حزب ديجول من الفوز بالأغلبية، فعمليا تمكنت الانتفاضة من إجباره على ترك السلطة بعدما فشل في تحقيق مقترحاته الإصلاحية على الأغلبية في اقتراع شعبي. تقول أستاذة علم الاجتماع في جامعة باريس السابعة، فنسان دي غولجاك، الطالبة الجامعية وقت الانتفاضة: واليوم ندرك أثر الفخ.. فالأكثر تسييساً رجعوا للتروتسكية والماوية لقلب سلطة الرأسمالية، وآخرون كانوا أكثر طوباوية"، أما المؤرخة فلورنس جوتييه، وهي أستاذة زائرة في جامعة باريس السابعة، وكانت من نشطاء الانتفاضة أيضاً فتقول: لم يكن العالم في نظري متسامحاً، وكنت أريد أن أفهم لماذا وكيف يحدث ذلك هنا، وفهمت بعدئذ أن ذلك ليس لأسباب خارجية، إنما له أسباب في تكويننا الشخصي. وتشرح كيف كان الطلبة يتألمون لبنايات المهاجرين الآيلة للسقوط، وأشباه البروليتاريا من النساء والمهاجرين. ولم يكن تنامي قوة الحزب الشيوعي الفرنسي في أوائل السبعينيات الذي يتمتع بالشرعية والأكثر واقعيةً، بعيداً عن انتقال كثرة من طلبة الانتفاضة إليه بعد تخرجهم، وهو واحد من ثلاثة أحزاب شيوعية أوروبية قوية وقتئذ إلى - جانب الإيطالي والأسباني - عُرفت بـ "الأوروشيوعية" لاختلافها مع الحزب الشيوعي السوفييتي. لكن هل مازال الإحساس ينتاب اليوم جيل الشباب الحالي؟ فأين هو من واقع أسوأ بكثير يتعرض له المهاجرون اليوم؟ وأين هو من مواقف عنصرية ما برحت الرئاسة الفرنسية تتبناها تجاه الشعوب التي استعمرتها؟ وأخيراً تقول جاكلين بارو ميشيل أستاذة بجامعة باريس السابعة: إن الحلم في غاية الجمال يدفع بالحماس للأخوة البشرية، شريطة عدم الاندفاع لحرق المراحل حتى يتحول الحلم إلى حقيقة. وهذا لعمري ما لم تتعلم منه للأسف جُل الحركات الإسلامية رغم مضي نحو نصف قرن على صعودها!.
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية