العدد 5188
الأربعاء 28 ديسمبر 2022
banner
سقي الله "دار الساقي"-
الأربعاء 28 ديسمبر 2022

 

سقي الله أيام الشباب/ فإني لبست بها الفخار قشيبا/ أضعت لا جهلاً قراها فغادرت/ على سخط مني المفارق شيبا 
- أبو الفتح البستي- 
 
من أجمل قصائد الشعر العربي الكلاسيكي القديم التي يروق لي استماعها بعربية فصحى سليمة، تلك التي يكون مطلعها أو يتخللها بيت بعبارة  "سقي الله"، ولا أدري لماذا قفزت إلى ذهني هاتان المفردتان، على حين غرة،من غير أن أحتسب، فيما أتابع سيلاً من تقارير الصحافة و"جوجل" التي زفت لنا الخبر المؤلم بنهاية العصر الذهبي الذي دام أربعة عقود ونيّف لمكتبة " دار الساقي" في لندن، وذلك مع قدوم اليوم الأخير من عامنا الجاري! 
هذه المكتبة التي اُسست عام 1978 على يد الزوجين أندريه وسلوى كاسبار، هي واحدة من المكتبات الفريدة من نوعها في الإفادة في العواصم العربية والاُوروبية، والأهم من ذلك أنها تتبع واحدة من أعرق البيروتية في اختيار اصداراتها بمضامينها وطباعاتها الراقية القشيبة، وإلى جانب ذلك فقد كانت تصدر عنها فصلية مهمة باسم" أبواب" تستكتب فيها نخبة من خيرة الكتّاب والأكاديميين والمثقفين العرب،دون تقوقع على دولة أو منطقة بذاتها، وأظنها سبقت المكتبة في الأغلاق، فقد كان عهدي بما صدر منها إذ كان عهدي بما صدر منها أعداد كان في التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية. وأتذكر كان الصديق الناشر موسى الموسوي يحجزها لي حينذاك بانتظام، أو أحياناً -لظرف ما طارئ- ينسخ لي ما يفوتني من بعض أعدادها في شكل ملزمة أنيقة مجلدة .وأعتدت على اقتناء أغلب ما يروق لي من اصدارات " الساقي" إما من المكتبات المحلية أو ومعارض الكتاب الموسمية في البحرين، أو من معرضي القاهرة وبيروت.  لكن " عبث الأقدار" حال دون تمكني هذا العام من التخطيط لزيارة معرض بيروت كعادتي السنوية ، واستبدلت عنه معرض الكويت في نوفمبر الماضي، ما أضطرني لتحمل مشقة السفر براً لساعات طويلة بصحبة ابني، لكن حصادي منه جاء وفيراً و رائعا، سواء مما أصدرته "الساقي" من كتب جديدة تتوافق مع هواي المعرفي، أو من دور اخرى، وعلى رأسها سلسلة "عالم المعرفة" المدعومة حكومياً،حيث وجدت ضالتي فيها للحصول على مافاتني من أعداد ذات عناوين تهمني، وغيرها من الاصدارات الاخري المتنوعة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، والذي يُعد أكثر جهات النشر في دول مجلس التعاون عراقةً، وتحظى اصداراته بسمعة طيبة، وبانتشار واسع في الأقطار العربية قاطبة. 
والجميل في مكتبة "الساقي"  اللندنية أنها لا تقتصر على اصدارات دارها فحسب، بل وتحرص أيضاً على عرض ما يصدر باللغة الانجليزية من مؤلفات تتعلق بعالمنا العربي. وهذه المكتبة أختار مؤسسووها اللون الأبيض لمبناها؛ لما يرمز له من اشعاع نوراني، وعلمتُ بأنهم تخيروه بعناية في مكان يجذب المقيمين والسياح العرب لارتيادها،فهي على مقربة من "اكسفورد ستريت" وحي "نايتسبريدج" التجاريين، وبالقرب أيضاً من محطة "بادينجتون" للقطارات، وأخال من لم يحالفه الحظ لزيارة مدينة الضباب -ككاتب هذه السطور- ليغبط الأشقاء من مثقفين عرباً-مقيمين وسيّاحاً- ممن قُيض زيارتها ومعاصرة  ذلك الزمان البديع، ليرووا ظمأهم المعرفي اغترافاً من منهل  تلك "الساقية" اللندنية . 
وإني لأغبط  المثقف العربي حقاً الذي كان يحمل معه كتاباً منها، أو عدداً من فصلية" أبواب"، ليتصفح أياً منهما في مقهى قريب ، أو أثناء رحلة له بالقطار. والحق ما كانت لتقفز إلى مخيلتي  مفردتا" سقي الله" في الأشعار،  إلا لأن من معانيها، الحنين الجارف إلى على مكان أثير على نفسك زرته أو لما تزره،ويهفو قلبك لزيارته مرات ومرات. 
وقد كانت لمفردة  "السقيا" - كما أسلفنا- توظيف بهذا المعنى في العديد من تراث عيون الشعر العربي، وبخاصة من قِبل شعراء المهجر في العصور الإسلامية الأولى عند استيطانهم دياراً جديدة اُفتتحت في تلك الأزمان الخوالي. فهل يعود إلينا يا تُرى زمن كذلك الزمان،لينقض فقرة من إحدى اغنيات "كوكب الشرق" الجميلة، غدت مضرب المثل لكثرة ترددها على السنة كثرة من اخوتنا المصريين: " من عاصروها: وعايزنا نرجع زي زمان/ قول للزمان ارجع يازمان"؟ 
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .