العدد 5199
الأحد 08 يناير 2023
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
لقد كانوا بشراً (2)
الأحد 08 يناير 2023

مهما بلغ الإنسان من عظمة أو سمو أو رفعة أو إبداع يبقى إنساناً حاله حال بقية البشر ينتابه ضعف أمام التحديات، يبكي وينكسر قلبه ويعيش الوجع أمام قسوة الحياة مهما بدت ابتسامته وظهر بصورة البطل أو المبدع أو النجم الذي يوزع ابتساماته في كتبه أو رواياته أو على المسرح. فوحده الله يعرف حجم الوجع الذي بداخله، وماذا يعاني. 
هكذا قرأت واقع كبار التاريخ بمختلف توجهاتهم، فالأديب الفرنسي جان جينيه الذي ذاع صيته الأرجاء كان يعاني من طفولة موجعة لعدم معرفته بوالديه، فعاش كفتى في الشوارع بين الأرصفة، يأكله الجوع وتغريه السرقة كطفل بحثا عن قطعة خبز. ظل مشردا بين الأرصفة والسجون، إلى أن وجد نفسه في الأدب، فاستلقى على صفحات الكتابة، فذائقته الأدبية أنقذته من طفولة موجعة وموت بطيء. 
كان ناقماً على المجتمع الفرنسي؛ لأنه كان يزدريه كطفل مشرد فقير. وكأن تجربة العبقري دافينشي تتكرر في جان جينيه، حيث كان دافينشي يعاني من عقدة الأم ومن أب يشتمه ويناديه ويعيبه ويناديه بالابن اللاشرعي. 
كان جينيه رحيما بالفقراء رغم تاريخ السرقة الطفولي الذي شوه طفولته. عاش جينيه وجع القضايا العالمية الإنسانية متحديا العالم وفي المخيمات حتى مات جريحا من الحب. 
أما الشاعر الفرنسي، آرثر رامبو، المتمرد على كل شيء، والذي يمتاز شعره بالثوري. كان يحمل قوة فولاذية في تحدي الحياة، وكل التقاليد، والمفارقة الكبرى أنه و -على بعض الروايات - تورط في تجارة العبيد في إفريقيا، حيث هَرَب لإفريقيا بعد إصابته برصاصة بسبب الحب في رجله، وزار دولا عربية كاليمن إلا أنه مات، وهو في ريعان شبابه متمردا ومتذمرا من قسوة الحياة. إنهم بشر يضعفون ويفشلون ويبكون كأطفال. هكذا هي الطبيعة البشرية. 
غريبة هي أعمال الفلاسفة والكبار، فمن كان يصدق أن الفيلسوف سارتر صاحب المدرسة الوجودية رغم حبه العميق بحبيبته الفيلسوفة، سيمون دي بوفوار، والذي بقي حبهما خمسين عاما مشتعلاً حتى آخر عمرهما إلا أنه كان متنوع العلاقات الغرامية. هل هو الضعف البشري أمام اللذة أم إنهم مهما بدوا كبارا على ورق الكتابة إلا أن لهم ضعفهم كبشر. وتلك هي مشكلة أيضا الفنان الإسباني بيكاسو في علاقاته المتنوعة. 
أما الكاتب الروسي العملاق، دوستويفيسكي الذي غاص بكتاباته مداخل النفس البشرية في كل رواياته خصوصا رائعة “الجريمة والعقاب”، والذي قال فيه فرويد لقد سبقنا جميعا في فهم النفس البشرية، أصيب باكتئاب حاد عبر عنه أنه أشبه بالموت، بل أشد.
وظل منطوياً على نفسه بسبب صدمات الحياة، والتي منها محاولة إعدامه الذي نجى منه في آخر ساعات من اقترابه من حبل المشنقة. أما العالم النفسي الكبير، فرويد الذي علمنا كيف نتعامل مع الإدمان، ظل لآخر عمره مدمناً على التدخين، وأسرف في تناول الكوكايين. هكذا هم بشر يضعفون أمام اللذة والألم، فقد بقي الموسيقار بيتهوفن أسير المسكرات والمخدرات في منزل فوضوي في كل شيء. 
نتساءل، ونحن نتابع سيرة الكبار، كيف لشاعر كبير مثل مايكوفيسكي انهزم أمام صدمات الواقع. فبعد أن خدعه الرفاق من الحزب الشيوعي، وهو الذي وهب كل ما يمتلك بصدق لأجل الناس، حيث ظل محاربا من لينين والحزب، سقط حزينا من غدر الرفاق والحزب وغدر الحب مرتين، إذ سبب له الانهيار وقتل نفسه. 
أما الأديب الروسي بوشكين، فوقفت كل الدنيا في وجه وجزء من ذلك لجمال زوجته التي كانت محل سحر كل من رآها. 
وفي ظل التحولات الفكرية ظل تولستوي أديب روسيا الكبير، ابن الأرستقراطية الروسية الكبرى يبحث عن الحقيقة، والوصول إلى الله بعد عمر من الزهو والترف والحياة الصاخبة إلى شيخ عجوز يبحث عن حقيقة الوجود. سئم الترف وظل يتبرع بكل أملاكه للفلاحين هاربا من زوجته الرافضة لكل هذه “السذاجة “في الكرم دون الالتفات لمستقبل أولاده، حتى فر هاربا من كل الحياة المترفة. مات بسبب البرد القارس دون مأوى ولا أهل ولا أصدقاء في صورة مأساوية مؤلمة. عندما تقرأ سيرة هؤلاء الكبار تراهم قوة صارخة في مواجهة التحديات، لكنك تكتشف أنهم في بعض منعطفات حياتهم بشرا مثلنا يبكون ويمرضون وينكسرون كأطفال ويتعاملون كمراهقين خصوصا في علاقات الحب.
الحياة تحتاج إلى رؤية فلسفية خارقة مع توازن نفسي في قراءة الوجود وتحمل صدمات الحياة، وكيفية النجاة بالنفس من الملذات والعذابات بصورة متوازنة. القوي هو من يمتلك عقلا نقديا ناضجا مع نضج نفسي متوازن وقوة في إدارة فن الألم وصداقة الجرح بذكاء عاطفي. فالحياة أشبه بالمشي على حبل مشدود على حقل من الألغام أو سير على حد سكين، لابد أن يمتلك صاحبها مقدرة على التوازن النفسي والعقلي والروحي؛ لكي لا يسقط في فم سمك قرش الحياة أو يتعرض للانهيار، فمهما كانت قساوة الحياة، فإن هناك أملاً للوجود وقوة تحايل دفاعية يجعلها الله في قلب الموجوع على الإنسان اكتشافها؛ لكي يواصل الطريق بحثا عن السعادة. 
لقد كانوا بشراً، ومازال البشر بشرا، وعليهم التشبث بشغف الحياة بتوازن مهما كان حجم العاصفة وطوفان الوجود.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية