العدد 5282
السبت 01 أبريل 2023
banner
فضاءات لغوية رضي السماك
رضي السماك
تمثال المعري في باريس
السبت 01 أبريل 2023

لم يكن أبو العلاء المعري (973م - 1057م) مجرد واحد من كبار شعراء العصر العباسي الثاني، بل واحداً من أعظم الأدباء والمفكرين والفلاسفة الذين أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية أيضاً، فهو مالئ الدنيا وشاغل العالم، ليس في زمانه فحسب، بل مازال كذلك في عصرنا، وسيظل على الأغلب كذلك على تعاقب العصور.
وتُعد الكتب والدراسات التي ألفت عن دواوينه الشعرية بالمئات، ناهيك عما كُتب أو اُلّف عن حياته وفلسفته وأفكاره النيرة، ولعل من أشهرها في عصرنا ما كتبه عنه عميد الأدب والمفكر العربي المصري الدكتور طه حسين الذي اُفتتن بجوانب عديدة من شخصيته أيما افتتان، ووجدها تنطبق عليه، سيما وأنه كان ضريراً مثله. وقدّم أطروحته لنيل الدكتوراه عنه، والتي صدرت عام 1914 في كتاب بعنوان: "ذكرى أبي العلاء" والتي بسببها كفّرته المؤسسة الدينية، مثلما كُفّر المعري في زمانه، كما خصص له المفكر التراثي اللبناني الراحل حسين مروة، فصلين من كتابه الموسوم "تراثنا كيف نعرفه"، (ص 81 - 119)، طبعة 1985، بيروت، متناولاً بالتحليل النقدي ما كُتب عن ديوانه "سقط الزند".
وفي عالمنا العربي جرى تخليده بإطلاق اسمه على المدارس والشوارع والصروح الثقافية والأعمال الفنية الأخرى. وثمة تمثال جميل للمعري صممه النحات السوري فتحي قباوة في بلدة المعرة بسوريا، لكن جرى تحطيمه على أيدي إحدى الجماعات المسلحة الإرهابية إبان أحداث سوريا الأليمة عام 2013. وفي منتصف الشهر الماضي، وبعد أن أكمل النحات السوري عاصم باشا تمثالاً نصفياً من البرونز للمعري في غرناطة بأسبانيا، يُماثل تمثاله الأصلي في بلدة المعرة التي مات فيها شاعرنا، ثم تم نقله إلى ضاحية مونتروي بباريس، حيث جرى نصبه وتدشينه في حفل بهيج حضرته نخبة من كبار المثقفين والكتّاب والفنانين، سوريين وعربًا وفرنسيين، كما رحبت بالمبادرة التي أطلقتها منظمة "ناجون" بلدية مونتروي. واعتُبر التمثال بعد نصبه عند مدخل تلك الضاحية في ضيافة فرنسا مؤقتاً حتى يعم الوئام والاستقرار والسلام في سوريا العربية الحبيبة. والحق نحن مدينون لمدينة "الأنوار" باريس بصفتها "الأصلية" في تكريم عدد من رموزنا الثقافية العربية لا باريس بصفتها الرسمية الحالية.
وحينما نقول مدينة "الأنوار" بصفتها الأصلية فإننا لا نقصد بصفتها أول مدينة أوروبية اُضيئت طرقاتها، بل لأنها أيضاً شهدت عصر التنوير على أيدي علمائها ومفكريها الكبار، والذي بلغ ذروته في القرن الثامن عشر، حيث كانت أعمالهم الفكرية العظيمة بمثابة مشاعل للثورة الفرنسية (1789) في استلهام قيمها الإنسانية العصرية في تحرر الإنسان والديمقراطية والمساواة والعدل وتحرر الشعوب والسلام. وكانت الثورة بدورها مصدر إلهام لثورات البلدان الغربية وعدد كبير من بلدان العالم في إقامة الأنظمة الديمقراطية والليبرالية. أما اليوم، ورغم نظامها الديمقراطي الحالي العريق الذي لا مراء فيه، فإن القيادة الفرنسية الحالية - كسابقاتها من قيادات في تاريخنا الحديث - كفت عن أن تكون معبرة تعبيراً كاملاً عن منظومة تلك القيم والمبادئ في الحرية والمساواة والتآخي الإنساني والتي استلهمتها الثورة الفرنسية، اللهم إلا فترات حكم متقطعة منذ الثورة. وفي كل الأحوال، وحتى خلال تلك الفترات المحدودة، لم تحظ تلك المبادئ بالتطبيق بشكل كامل خلاّق في أية فترة، وليست الحكومة الحالية، بسياساتها الداخلية والخارجية استثناءً من ذلك، فداخلياً ثمة جوانب خطيرة من سياساتها الاقتصادية والمعيشية تتنافى تماماً مع مصالح أوسع الفئات الشعبية والوسطى، أما خارجياً فثمة جوانب مهمة من سياساتها تتناقض كلياً مع مصالح شعوب عديدة من بلدان العالم الثالث التي استعمرتها سابقًا، سيما في أفريقيا، هذا في الوقت الذي تعصف بالبلاد أخطر الاضطرابات والإضرابات والتظاهرات المطلبية الاحتجاجية منذ التظاهرات الطلابية العاصفة الشهيرة التي اجتاحت فرنسا عام 1968؛ وما ذلك إلا جراء تنكر القيادة السياسية الحالية وحكومتها لمبادئ الثورة، وعدم تطبيقها تطبيقًا أميناً، ومن ثم انتهاجها سياسات ومواقف بالضد منها، بل لعلها تُعد واحدة من أسوأ القيادات والحكومات في تاريخ الجمهوريات الفرنسية المتعاقبة منذ إلغاء الملكية.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية