العدد 5345
السبت 03 يونيو 2023
banner
النكبة والنكسة وغياب النقد الذاتي
السبت 03 يونيو 2023

يعود الفضل في شيوع مصطلحي "النكبة" و"النكسة" في ثقافتنا السياسية العربية - تعبيراً عن هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في عامي 1947 و1967 - إلى المفكر والمؤرخ القومي قسطنطين زريق الذي صك المصطلح الأول، والكاتب الصحافي المصري الكبير محمد حسنين هيكل الذي صك المصطلح الثاني، ومن اللافت أن زريق أصطك مصطلحه والحرب لم تنته بعد، عندما أصدر كتابه "في معنى النكبة" في 1948، وكذلك عندما اصطك هيكل مصطلحه في خطاب التنحي عن الحكم الذي كلفه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بإعداده، وألقاه في الثامن من يونيو 1967، قبل انتهاء الحرب أيضاً. لكن ما معنى النكبة؟ وما معنى النكسة؟
في واقع الحال المصطلحان لا يفترقان عمليا في المعنى، فكلاهما يعبران عن الهزيمة العسكرية، وكلا الكاتبين إنما توسل من مصطلحه تخفيف وطأة وقع كلمة الهزيمة على مسامع العرب، باعتبار العرب أمة عظيمة ماجدة لا يعرف قاموسها مصطلح الهزيمة، وبالتالي فإن هذا المنحى الذي اتبعه زريق وهيكل إنما ابتغيا منه عدم الاعتراف الصريح بالهزيمة وتحاشي ذكر العوامل الذاتية التي أفضت إلى هزيمتي 1948 و1967، مع أن هذه العوامل لعبت دوراً رئيسيا في الهزيمتين، دون نكران ما للعوامل الخارجية من تأثير في اختلال ميزان القوى لصالح إسرائيل.
والحال ظل العقل السياسي العربي لعقود طويلة ينفر من النقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء القاتلة ومازال كذلك، سواء على مستوى الأنظمة في حروبها الخارجية، أم على مستوى القوى السياسية المعبر عنه في النفور من المراجعات الفكرية الصريحة الكاملة دون تبرير، ومن ثم الاعتراف بالأسباب الداخلية لانحسار تلك القوى اعترافاً ليس بالأقوال فحسب، بل بترجمة المراجعات على أرض الواقع في حياتها الحزبية الداخلية والخارجية، فإذا ما أجريت مراجعة جاءت في الغالب الأعم شكلية خجولة مطعمة بالتبريرات، أما إذا لامست قدراً معقولاً من الصراحة - قولاً أو كتابياً - غابت عنها الترجمة على أرض الواقع. وإذا كان هذا الحال على الجانب العربي، فإنه على الجانب الإسرائيلي لا يختلف كثيراً والمعبر عنه في عدم اتخاذ موقف شجاع لدراسة أسباب هذه الأزمة الأمنية التاريخية المديدة مع الطرف العربي، والفلسطيني بشكل خاص. 
في واقع الحال ان أي مؤرخ موضوعي لحركات التحرر العالمية لن يجد حركة تحرر وطني قدمت تنازلات هائلة للطرف الذي ينازعها في حقوقها المشروعة كما قدمته حركة التحرر الوطني الفلسطينية، حيث توجت سلسلة تلك التنازلات منذ عام 1974 باتفاق أوسلو الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل 1993 برعاية أميركية، والذي اعترفت بموجبه الأولى بالدولة العبرية وأحقيتها في ما احتلته عام 1948 من أراض فلسطينية إضافية على الأراضي المخصصة لها والموثقة دوليا في قرار التقسيم 1947، وبقبولها بحكم ذاتي انتقالي في الضفة وغزة. لكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وعلى مدى ثلاثة عقود ونيف لم تقابل تلك التنازلات التي شقت صفوف الطرف الفلسطيني والعربي إلا بمزيد من الصلف والتشدد، كما لم تفِ بكل التزاماتها التي ينص عليها الاتفاق، والأسوأ من ذلك عانى الشعب الفلسطيني طوال هذه الفترة من سلسلة من الاعتداءات المتواصلة انتقاماً لمواصلته نضاله المشروع الذي تقره الشرعية الدولية. 
والآن لنلغي عقولنا ونساير الخطاب الرسمي للدولة العبرية بأنها تواجه خطر "الإرهاب الفلسطيني"، وهذه الفزاعة التي ما برحت تبرر بها اعتداءاتها الوحشية وترفعها منذ ثلاثة أرباع القرن على تأسيسها عام 1948، ولنتساءل: أو لم يحن الوقت لتسأل نفسها لماذا كل تدابيرها لمواجهة "الإرهاب" الفلسطيني فاشلة؟ وإلى متى ستظل تنفق على جيشها مئات المليارات من الدولارات في حروبها على هذا "الإرهاب" المستديم العاجز عن كسر إرادة وعناد "الإرهابيين"؟ وما تأثير ذلك على مستقبل دولة إسرائيل نفسها؟ هل توجد دولة في العالم ترضى على نفسها أن تعيش على هذه الحالة من عدم الاستقرار طوال ثلاثة أرباع القرن منذ تأسيسها حتى يومنا هذا؟ وكم من المبادرات العربية المعتدلة الوسطية ومن قرارات الشرعية الدولية التي رفضتها إسرائيل أو لم تتقيد بها طوال هذه الفترة الطويلة بدءاً من قرار التقسيم الدولي عام 1947؟ 
الأغرب من هذا وذاك أن إسرائيل باتت تتجاهل أصوات العقل من داخلها والتي تبدي رأياً مخالفاً لوجهة النظر الرسمية، وانطلاقاً من قلقها على مستقبل إسرائيل أخذت تحذر من الإيغال في سياسة القمع الوحشي مع الشعب الفلسطيني، ولعل من أشهر هذه الأصوات ما عُرف بظاهرة "المؤرخين الجُدد" والتي برزت منذ أواخر الثمانينيات، وقد نشر هؤلاء المؤرخون الإسرائيليون دراسات رصينة تنقض الأساطير الصهيونية التي قام عليها تأسيس دولتهم، كما وثقوا الحقائق الفعلية لما حدث خلال النكبة. كما حذروا من عواقب إهدار فرص السلام العديدة مع الفلسطينيين والعرب. ومن هؤلاء المؤرخين - على سبيل المثال لا الحصر - بيني موريس الذي أعاد كتابة التاريخ الإسرائيلي، وإن تراجع بعد ذلك عن آرائه، وكذلك المؤرخ آفي شلايم صاحب كتاب "الجدار الحديدي"، والمؤرخ البروفيسور شلومو زند مؤلف كتاب "متى وكيف توقفت أن أكون يهودياً؟"، والكاتب أوري وزولي مؤلف كتاب "هل ستبقى إسرائيل حتى عام 2048؟" أي بعد قرن من تأسيسها، والذي ترجمته إلى العربية الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لوزارة الإعلام المصرية. 
على أن من أقوى صيحات التحذير الجماعية الأخيرة على مستقبل الدولة العبرية تلك التي أطلقها مئة مؤرخ إسرائيلي، ونشرتها صحف بريطانية، وتناولها بالتحليل الكاتب بكر عويضة في مقال له في صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية بتاريخ 8 فبراير الماضي. 
وإذا كانت إسرائيل لا تعطي اذناً صاغية لأصوات مؤرخيها ومثقفيها العقلانيين، فلعل الأخطر من ذلك أن تجاريها في هذا التجاهل دول غربية حليفة لها تتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى رأسها الولايات المتحدة، دون التبصر في خطورة هذه المواقف المنحازة على مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة، لا بل على مستقبل حليفتهم المدللة الدولة العبرية نفسها.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .