العدد 5348
الثلاثاء 06 يونيو 2023
banner
الأديب عندما يصبح وكيلا للنيابة
الثلاثاء 06 يونيو 2023

كانت صدمة حضارية كبيرة تلك التي حدثت للأديب توفيق الحكيم عقب انتقاله من باريس عاصمة النور إلى مدينة طنطا الصغيرة بمصر بعد تعيينه وكيلاً للنيابة. لقد أصابه الذهول كمن وقع من السحاب حين راح يتصفح الوجوه والأشياء حوله، وجد نفسه وكأنه هبط على سطح القمر المعتم، فهو يختلط بأنواع من الموظفين وألوان من الناس لم يكن يظن أنه سيجد نفسه بينهم في يوم من الأيام، وحتى مطالعاته أصبحت تتعلق بعمله الرسمي فتميل إلى الدراسات الجافة والمسائل الاقتصادية.
حدث تغير كبير في شخصيته، تحول من الأديب الخيالي إلى المسؤول الواقعي، فعندما تسلم عمله كان يظن أنه سيكون وكيل نيابة بمنطقه الخاص وعقله الذي يفكر بشكل مختلف عن الآخرين حتى أنهم يقولون إنه أبله! "أريد أن أكون وكيل نيابة على طريقتي فأنا لي منطق خاص ينشط أحيانا عما اعتاده الناس، فإذا أنا في واد وهم في واد، بعضهم يقول عني "أبله" وبعضهم يقول فطن". لكن أنى له ذلك؟ لقد صبغته الوظيفة بصبغتها من الجدية والوقار مع التفكير العميق في هموم الناس ومشاكلهم، يقول: "إنني أبت الآن في حياة الناس وأطلب رؤوسهم، فيجب على الأقل أن يكون لي رأي يدري ما يصنع".
ليس هذا فقط، لكن الأديب الذي كان لا يعرف عن الناس والبشر إلا الخيال وكتب الفلسفة والشعر والأدب أصبح يقف كل يوم ليشاهد عملية تشريح الجثث. الأديب الذي كان يعتقد في نفسه رقة الحس إلى درجة الارتعاش من دماء تسيل من إصبع مجروح، أصبح الآن يأمر طبيب المركز بأن يقوم بتقطيع أوصال الجثث أمامه لينظر في تجاويف الصدر والقلب والأمعاء.. الأديب والشاعر مرهف الإحساس أصبح يطلب ويشاهد تقطيع الجثث ولا يرتعد! لكن بعد كل ذلك هل استطاعت الوظيفة المرموقة سرقة الحكيم من إبداعه وأدبه؟
الإجابة بالطبع لا، فقد كانت الوظيفة بكل تعقيداتها وعيوبها ومميزاتها تختمر داخل عقله ووجدانه حتى كتبها بعد ذلك في روايته الرائعة "يوميات نائب في الأرياف".. كتبها سنة ١٩٣٧ لتكون فتحا جديدا لرواية مصرية خالصة تحكي عن الناس فى إحدى قرى مصر، ترصد معاناتهم أمام ظلم الإدارة والبيروقراطية، وهم رغم ذلك لديهم المقدرة على صناعة مباهجهم وسعادتهم، يقتنصونها من هذه الحياة القاسية اقتناصا.
هذه الرواية ترجمت إلى العديد من اللغات، وجعلت النقاد الإنجليز يطلقون على توفيق الحكيم "ديكنز" وادي النيل.
كاتب مصري
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .