العدد 5349
الأربعاء 07 يونيو 2023
banner
مسألة الالتزام عند الأديب
الأربعاء 07 يونيو 2023


في جلسة حوارية مفيدة ممتعة بمنزله ومرتبة سلفاً، تحلّق حول عميد الأدب العربي طه حسين، من على يمينه ومن على شماله،  نخبة من كبار مثقفي ومفكري وأدباء مصر،كان من بينهم الروائيان نجيب محفوظ ويوسف السباعي والكاتب المسرحي عبد الرجمن الشرقاوي والكاتبان الصحفيان أنيس منصور وكامل زهيري واُستاذ الفلسفة عبد الرحمن بدوي والمفكر محمود أمين العالم. وإذ تشعبت أسئلة هذه النخبة إلى العميد حول قضايا أدبية وثقافية مختلفة، إلا أن ثمة قضيتين من بينها أحسبها على درجة من الأهمية، حيث ما برحتا تثاران بين آونة واُخرى في عصرنا على الساحتين الأدبية والثقافية، الأولى تتعلق بمسألة الالتزام  عند الأديب، والثانية تتصل بقضية الموقف من العامية والفصحى، وإذ نرجئ هذه القضية الأخيرة إلى وقفة قادمة، سنتناول في هذه العجالة قضية الالتزام  التي أثارها محمود العالم في سؤاله للعميد عن اُصول الالتزام ، وماهي حدوده؟ حيث دافع الأخير عن أهمية الالتزام  وعدّه  طبيعياً "عند كل أديب يُحسن فنه؛ لأن الأديب بحكم أنه أديب هو مرآة للبيئة التي يعيش فيها، ومعنى ذلك أنه ملتزم بهذه البيئة. إنما الالتزام  الذي أمقته أشد المقت هو الالتزام الذي تفرضه الدولة أو يفرضه السلطان ، هذا يفسد أدب الأديب، إذا كان الالتزام يأتي من سلطة عليا، فهذا مفسد للأدب، ولكن الأدب الصحيح ملتزم بطبعه". وعلّق العالم من جانبه:  "نحن نفرّق بين الإلزام والالتزام ، نحن نرفض الإلزام بغير شك، ولكن الالتزام  هو صادر من ضمير الأديب"، فأكد العميد من جانبه على هذا الاستيضاح تماما بالقول: "قطعاً". 
والحال أن ما لم يدركه أو ينتبه له العالم في مفهوم طه حسين لمسألة الالتزام ،بأنه يشمل رفضه إذا كان يتم بموجب أوامر أورغبة سلطة عليا، بما فيها سلطة الحزب عندما تفسد الأديب بأوامرها أو تدخلاتها الفجة في النصوص الإبداعية للأديب العضو، بما يفقد الأديب استقلاله  وحريته الإبداعية.ولما كانت هذه الدردشة الحوارية قد جرت في أواخر الستينيات أو أوائل سبعينيات القرن الآفل، فلعله تُجدر بنا الإشارة إلى المعركة النقدية الأدبية السياسية التي دارت في أواسط الخمسينيات بين الشابين محمود العالم وصديقه عبد العظيم أنيس من جهة، وهما في مطلع ثلاثينيات عمرهما،  وبين رهط من كبار رموز الأدب في مصر أواسط الخمسينيات من جهة اخرى، ومن أبرزهم طه حسين نفسه، والعقاد. وقد صدر في هذا الشأن كتاب للشابين العالم وأنيس بعنوان" في الثقافة المصرية" في بيروت 1954،  وكتب مقدمته المفكر اللبناني الراحل حسين مروة. وعلى الرغم مما تشي به ثقافة الشابين من نبوغ واعد في الفكر النقدي  والأدبي،  إلا أنهما كانا متأثرين بشدة بمدرسة الواقعية الإشتراكية الستالينية بمفهومها الميكانيكي الضيق؟ والذي كان يُطبع حينذاك الكتابات الإبداعية والنقدية عند اليسار العربي، وعلى وجه الخصوص لدى الأحزاب الشيوعية العربية المعروفة بموالاتها للحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفييتي،  بما في ذلك تنظيراته وإصدارته عن الالتزام  والواقعية الاشتراكية . 
لكن مع مرور الوقت واكتساب العالم وأنيس نضجاً وسعة أُفق أكبر أضحت لهما بعدئذ مراجعة وموقف مغاير من ذلك الموقف الحزبي الضيق لمسألة الالتزام  في الأدب، وإن ظلا محتفظين بنهجهما الماركسي، وهذا ما يتبين ليس في كتابات العالم اللاحقة فحسب، بل حتى في مجرى الحوار التوافقي الذي دار بينه وبين العميد في تلك الجلسة الحوارية الجماعية.على أن في هذه الجلسة المهمة تتكشف لنا مسألة أبعد من تلك المعركة الأدبية النقدية، إذ ثمة فريق من  الأدباء ظل يقف ضد الالتزام  بمفهومه المطلق،جملة وتفصيلا، حتى بالمفهوم الذي حدده طه حسين، وظل ينادي بمقولة الأدب من أجل الأدب، أو الفن من أجل الفن، وقد بدا هذا واضحاً  حتى من قِبل الذين طلبوا التعقيب في الجلسة، وإن أظهروا مداخلاتهم بطريقة غير صدامية مع وجهة نظر العميد والعالم. وكما هو معروف فقد كان طه حسين منحازاًللالتزام بالمفهوم الذي حدده ليس في تلك الجلسة الحوارية فحسب، بل يمكن استشفاف  هذا الالتزام  في مجمل أو جُل أعماله الأدبية والنقدية،ولعبت الظروف المعيشية الصعبة التي تجرعها العميد في طفولته وشبابه الباكر دوراً في انحيازه  إلى جانب الفقراء والمحرومين والمهمشين، ومن هنا يمكننا فهم "كتابيه " المعذبون في الأرض" و "شجرة اليؤس"،  وكذلك مناداته بمجانية التعليم بجميع مراحله. إذ لم يأتِ كل ذلك من فراغ . ومع أنه يعلم جيداً بالانتماء الفكري للعالم،  إلا أن ذلك الأنتماء لم يحل دون أن يكون موضوعياً في إشادته به ككاتب ملتزم منحاز للمهمشين والفقراء المستضعفين  في كتاباته، وكذلك بتقريظه لكتابه " معارك فكرية". 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية