+A
A-

للقراءة: كتاب ”بحوث غير مألوفة.. 12 مغامرة في الحجة والنقاش“

تكمن أهمية ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية في الأفكار غير المروضة التي أطلقها رسل في عدد من ا القضايا التي توضح فلسفته ونظرته إلى الحياة والكون. ولسان حاله يقول، كما سبق لـ أناتول فرانس في كتابه (حديقة أبيقور ) أن قاله : (لو كنا ندرك أشكال النفس كما ندرك أشكال الهندسة لما خالطنا عداء لعقل ضيق إلا بمقدار ما يعادي رياضي زاوية تفتقر إلى خمس أو ست درجات لتكون لها خصائص الزاوية القائمة.

ولتوضيح مفهوم المنطق عند رسل نرى أن له جانبين يقوم كلاهما على التحليل : أحدهما جانب فلسفي والآخر رياضي. ونستطيع أن نصل إلى الجانب الأول إما عن طريق تحليل التجربة، وإما عن طريق تحليل اللغة. أما الجانب الرياضي فنصل إليه عن طريق تحليل المفاهيم والتصورات الرياضية وتحويلها إلى مفاهيم منطقية. والنظريات التي استحدثها رسل في المنطق والفلسفة نظريات حصل عليها من تحليله لعناصر التجربة الشائعة ومن تحليله للغة، سواء في ذلك اللغة العادية أم لغة العلوم.

لقد اعتقد رسل كما اعتقد هيوم من قبل أن من أهم وظائف الفلسفة التي تتحدى افتراضات العلم لا بهدف الشك فيه وزلزال أركانه على نحو ما فعل هيوم، بل من أجل إبراز وجوده والعلم في صميمه جهاز من المعرفة والقوانين لكن المعرفة العلمية لا تقدم لنا مضمون الإدراك الحسي، وهو عبارة عما تنطبع به حاسة الشخص المدرك، بل تقدم لنا هياكل أو إطارات تصور العلاقات بين الظواهر . فليس موضوع علم الحرارة مثلا كيفية إحساس هذا الفرد أو ذاك بلثعة الأجسام الحارة، بل موضوعه هو الموجات المعينة التي يمكن قياسها وبناء معادلات رياضية خاصة بها. وهذه الهياكل أو الإطارات التي تقدمها لنا القوانين العلمية ليست في حقيقتها إلا مختصرات لأوصاف مجموعة من الظواهر الجزئية، أو هي عبارة عن تعميمات لخصائص معينة وجدت حول بعض الظواهر .

كان رسل فيلسوفاً حتى وهو يدعو إلى تعطيل الفلسفة حيناً من أجل التفرغ للكفاح العملي.. وعلينا جميعاً أن نتلقى منه الدرس ونعيه. فليست الفلسفة وليس ،الفكر وليست الثقافة، كلاماً أجوف يقال، أو جدالاً فارغاً يشغل السطح الخارجي من عقول الناس، وإنما هي قبل كل شيء رؤية واضحة لحقائق العالم الذي نعيش فيه، وسعي مستمر، يمتزج فيه النظر بالعمل من أجل جعله عالماً أفضل كل هذا يبين  لنا أن فيلسوفنا كان نصيراً للعقل على الخرافة، يرى في العلم وفي الصناعة ركناً ركيناً للحضارة، وهو يحاول أن يقتلع من الإنسان كل ما قد تخلف في فطرته من الحياة الحيوانية الأولى، والتي تملأه بالرغبة الجامحة وبالشر والعدوان أو كما قال ليوناردو دافنشي (يبدو لي الناس ذوو الأخلاق الدنيئة والشهوات الحقيرة بأنهم غير جديرين بهياكل جسمانية جميلة ومعقدة كالناس ذوي الذكاء الحاد والتأمل البعيد، إذ يكفي لديهم كيس وبفوهتين: أحدهما لتلقي الطعام, والآخر لقذفه بعيداً لأنهم ليسوا سوى ممر للطعام وأحواض لامتلاء الماء، فهم يقتصرون في الشبه بأولئك الناس على الوجه والصوت، بينما هم في كل الأشياء أسوأ من الحيوانات المفترسة).

وفي موضع آخر حول هذا الموضوع يكتب دافنشي بعد دعوة طعام في الفاتيكان قائلا: يحدثنا سينكا الفيلسوف الروماني بصدق وهو يقول: (ينطوي في دخيلة كل إنسان إله ووحش مرتبطين بسلسلة واحدة).

إن رسل أراد من كل هذا أن يخرج إنساناً مهذباً متحضراً يسالم أخاه في سبيل إنسانية عليا إنسانا يطفو فوق سطح حطام صغير ستقاذفه الأمواج من كل صوب وتغمره الظلمات من كل جانب، ولا تكاد تتعكس فوقه إلا بعض أضواء خافتة تنبعث بين الحين والآخر من جانب أخوة له في الإنسانية. والحق أنه لا بد لكل فرد منا - في وسط ذلك المحيط المظلم الذي تتقاذف أمواجه العاتية أمداً قصيراً من الزمن، أن يشق طريقه لنفسه وبنفسه، مصارعاً ومجاهداً ضد تلك القوى العاتية الغاشمة التي تتهدده باستمرار. ومعنى هذا أنه لا بد للنفس الفردية من أن تحشد كل طاقاتها الشخصية لمواجهة ذلك العالم الخارجي الذي لا يأبه - في كثير أو قليل - بكل ما لديها من آمال أو مخاوف. وحين يتسنى للنفس الفردية أن تظفر بالنصر في صراعها الدامي ضد قوى الظلم، فهناك يصبح في وسعها أن تنعم بصحة الأبطال المجيدة، ويكون في استطاعتها أن تتمتع بنشوة الوجود البشري الذي لا يخلو من جمال. ولا شك أن هذا التلاقي الرهيب الذي يتم بين النفس من جهة،

والعالم الخارجي من جهة أخرى، إنما هو المصدر الذي تتولد منه فضائل كالحكمة والمحبة ونكران الذات، وبالتالي فإنه الأصل في ظهور حياة إنسانية جديدة. وحين يتمكن الإنسان من استدراج تلك القوى الخارجية المعادية التي يبدو البشر مجرد ألاعيب في يدها، إلى أعماق ذاته، أو حين ينجح في تسليط أضواء الوعي عن الموت والتغير والماضي الذي لا سبيل إلى استرجاعه، والعجز البشري، أمام قوى الطبيعة الغاشمة، فهناك، وهنالك فقط، يكون قد استطاع السيطرة على الكون اللاواعي، والتحكم في القوى الخارجية الغلابة. وعلى ذلك ارتكزت فصول كتاب رسل الذي وضعته بين أيدي القارئ .

إن ترجمة عنوان الكتاب للغة العربية تحتمل مسميات عديدة منها على سبيل المثال مقالات لانشوف، ولكني أثرت أن يكون العنوان ( بحوث غير مألوفة) لأن موضوعات الكتاب هي : فعلا غير مألوفة وتشوق قراءتها.