+A
A-

السينما والمجتمع في الوطن العربي القاموس النقدي للأفلام

يصل هذا الكتاب إلى أيدي القراء العرب في وقت يلاحظ فيه أن السينمات العربية باتت بعيدة عن أن تعيش أفضل أيامها. فخلال السنوات الأخيرة تضاءل بشكل مثير للقلق عدد الأفلام العربية التي يمكن إلحاقها بتاريخ الفن السابع العربي. بل تضاءل أصلاً حجم الإنتاج السينمائي ما انعكس إغلاقاً لصالات السينما في العديد من المدن العربية، كما انعكس من ناحية ثانية في خلو العديد من المهرجانات السينمائية العالمية والمحلية من مشاركات عربية كانت ملء العين لسنوات قليلة خلت.

طبعاً لا نريد لهذه المقدمة أن تكون نوعاً من السرد لما يحدث في فضاء السينما العربية. فالأزمة أكبر وأخطر من أن تعالج في مقدمة كتاب، ولا حتى في مجموعة من الدراسات والكتب. غير أننا نعرف أنها ليست المرة الأولى التي يدخل فيها الإنتاج السينمائي العربي وهدة التأزم، ويبدو مستقبل هذا الإنتاج في خطر، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد. فالسينما، مثلها في هذا مثل بقية الفنون وضروب الإنتاج الإبداعي، عرفت دائماً كيف تكون كطائر الفينيق ينبعث في كل مرة من رماده والرماد هذه المرة هو ذلك المناخ الانتقالي الحاد الذي تعيشه شؤون وطننا العربي وشجونه وعلى كل الأصعدة ، ومن سمات المراحل الانتقالية أنها تخدم كفترة للتأمل استعداداً لخطوات - وربما لقفزات - مقبلة. وما التأمل سوى نوع من دراسة ما حصل من ناحية لتوضيح ما يحصل، ومن ناحية أخرى للاستعداد لما سوف يحصل. وبالنسبة إلينا هنا يُترجم هذا التأمل في عمل بحثي نظري غايته أن يلقي نظرات جديدة على ما تحقق حتى الآن من مسار تاريخ السينمات العربية، أي مجموع الأفلام التي حققها طوال ما يقرب من قرن من الزمن كل أولئك المبدعين العرب الذين اختاروا الكاميرا وسيلة لقول ما يريدون قوله ما إن لاحت لهم إمكانية أن تكون للعرب كاميراتهم وبالتالي سينماهم وأفلامهم .

والحقيقة أن ليس في الإمكان الآن قول هذا من دون أن نطل على واقع لم يكن أصلاً في حسبان المهتمين بالسينما العربية أو بتاريخها خلال العقود الأولى من عمر هذا الفن. وتتعلق هذه الحقيقة بما يمكن أن نسميه ذاكرة السينما، وهي ذاكرة تبدو على عكس حال ذاكرة العديد من الآداب والفنون الأخرى، ماثلة في كل لحظة وحين وبخاصة بفضل التلفزيون وما أتى من بعده وفي ركابه من إنترنت» و«يوتيوب» وغيرهما من وسائل بثّ الشرائط، والتي جعلت للأفلام السينمائية حياة شديدة الغنى والحضور حتى بعد سنوات وعقود من ظهور هذه النتاجات للمرة الأولى. فالأمر بالنسبة إلى الفيلم السينمائي، يتعدى ومن بعيد نطاق الإيداع في مكتبة أو متحف. وطبعاً يتعدى الحفاظ على الفيلم في الذاكرة الفردية... فالأفلام موجودة في كل مكان وإلى أزمان طويلة مقبلة، تسلّي، تستثير حنيناً، تقدم معرفة وتواصل مساهمتها في خلق الطبيعة الثانية لدى متفرجيها الذين يزدادون عدداً واهتماماً في وقت يتناقص فيه عدد الصالات التي تستقبلهم.

وهنا، في هذا السياق بالتحديد، وقبل أن نقدم لهذا الجزء من ثلاثية السينما والمجتمع في الوطن العربي، قد يكون من الجيد رواية حكاية صغيرة، لكنها ذات دلالة، ربما كانت هي بالنسبة إلينا ما يقف خلف هذا الكتاب. حدثت الحكاية قبل عقد ونصف العقد من الآن حين أصدر مفكر صديق يعتبر من كبار علماء الاجتماع في الوطن العربي كتاباً ضخماً في أكثر من ألف صفحة موضوعه مكوّنات الذهنيات العربية في القرن العشرين في الحقيقة كان الكتاب رائداً ومميزاً في موضوعه على عادة ما يكتبه صاحبه، ومن هنا كان من الطبيعي لنا أن ننكب على قراءته بشغف لننتهي من تلك القراءة دون أن تطالعنا جملة واحدة فيه تشير إلى السينما - أو إلى الأغنية لكن هذا موضوع آخر - بوصفها واحداً من المكونات الأساس لتلك الذهنيات وبخاصة خلال النصف الثاني من القرن الذي يدرسه الكتاب يومها في جلسة مع المؤلف الصديق فاجأناه بسؤال حول غياب السينما وبعض الفنون الأخرى عن كتابه، فبدا كالمباغت ينظر إلينا نظرات حائرة تنم عن أن هذا الموضوع لم يكن قد خطر في باله على الإطلاق. والحقيقة أننا لم نلمه على ذلك، فهو في موقفه إنما كان يسير مسار الغالبية العظمى من المثقفين العرب الذين لم يدركوا على الإطلاق أهمية السينما - المصرية منها على الأقل ذلك الحين – في صياغة ما يسمى في علم الاجتماع، الطبيعة الثانية» لدى الجماهير العربية ولا سيما في المدن وفي أوساط الشرائح المتوسطة من السكان. وعلى هذا النحو ولد لدينا في ذلك اليوم هذا المشروع الذي ظللنا نطارد المؤسسات والهيئات ودور النشر العربية سنوات طويلة كي يتبناه أحد منها، حتى وصل إلى أيدي مركز دراسات الوحدة العربية التي تلقفته بترحاب لتكون النتيجة إنتاج كتاب ثلاثي ها هو جزؤه الأول هنا بين أيدي القراء.

لقد آثرنا ضمن مشروع إصدار هذا الكتاب الذي أردناه شاملاً عناصر الموضوع الثلاثة: الأفلام المخرجين؛ والسياق التاريخي لعلاقة هذه السينما بجمهورها ومجتمعاتها؛ أن نبدأ بإصدار الجزء الأول (هذا) (المجلد الذي يضم نوعاً من التحليل الاجتماعي لنحو مئتي فيلم رتبت تبعاً لأبجدية عناوينها على شكل قاموس على أن يخصص الجزء التالي لنحو مئتي مخرج رتب تناول حياتهم وعلاقة تلك الحياة بأفلامهم على الشاكلة القاموسية نفسها، ويكون الجزء الثالث من هذه الموسوعة التحليلية - التاريخية عبارة عن دراسة تركيبية/ تحليلية للأفلام وعمل أصحابها، تقدم نوعاً من السرد التاريخي والعلم - اجتماعي لتلك العلاقة التي نفترضها مركبة بين الوعي الذي أتت به السينما العربية، وبشكل أكثر تحديداً، السينمات العربية، وبين الأثر الاجتماعي والسيكولوجي - الاجتماعي الذي تركته هذه الأفلام ليشكل ما نسميه الطبيعة

الثانية لدى المتفرجين

ومن هنا يتضح أن الأفلام التي اخترناها هنا ليشغل الحديث عنها صفحات هذا الكتاب، ليست في رأينا، وبالضرورة تلك التي يمكن تعيينها في استفتاءات تتناول «أفضل ما حققته السينمات العربية في تاريخها، حتى وإن كان ثمة تطابق ما بين العديد من الأفلام المعتبرة في استفتاءات معينة أفضل ما تحقق وبين ما اخترناه فالحقيقة أن ما لا ينبغي أن يغيب عن بالنا هو أن التاريخ الراهن أثبت دائماً أن الأفلام الأكثر عمقاً وارتباطاً بهموم مبدعيها والظروف الاجتماعية بل حتى السياسية والاقتصادية التي عبرت عنها هي نفسها ولو بعد حين، التي يعود اليها حتى الجمهور العريض بعدما كان قد لفظها في عروضها الأولى. وحسبنا للإشارة إلى هذا أن نذكر فيلمين على الأقل لم يحققا حين عرض كل منهما للمرة الأولى، أدنى نجاح جماهيري، لكنهما إذ عادا بعد سنين ليعرضا ولو تلفزيونياً، حققا إجماعاً شعبياً. والفيلمان هما «المومياء» لشادي عبد السلام ، و باب الحديد ليوسف شاهين. فتاريخ السينما يروي لنا الكثير من الحكايات المحزنة عن الفشل التجاري - وحتى النقدي أحياناً - الذي كان من نصيب هذين الفيلمين في عروضهما الأولى في المدن العربية... لكنه يعود ويروي لنا حكايات أخرى عن نجاحات لاحقة في داخل الوطن العربي وخارجه لهذين الفيلمين اللذين يشغلان الآن المكانتين الأولى والثانية تباعاً في معظم الاستفتاءات التي تدور من حول أفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية.

مع هذا نعود ونكرر أن اختيارنا للأفلام التي نعالجها في هذا المجلد لا يعني أنها، بالنسبة إلينا، الأفلام الأفضل ولا الأجمل ولا حتى الأكثر استجابة للتجديد في اللغة السينمائية أو في غيرها، بل فقط هي - ومرة أخرى بالنسبة إلينا - الأفلام التي تستجيب بأكثر مما تفعل أفلام كثيرة أخرى للهم البحثي الذي نتوخى التعبير عنه في هذه الثلاثية: هم العلاقة بين السينما والمجتمع في الوطن العربي وهم سبر الطريقة التي عبرت بها السينما العربية، ممثلة بهذه الأفلام تحديداً، عن التطورات الاجتماعية على مدى ما يقارب القرن. ثم - وهذا لا يقل أهمية في رأينا - كيف اشتغلت هذه الأفلام على الذهنيات العربية وساهمت في تطويرها.

هي إذاً بالنسبة إلينا لعبة الفعل والتفاعل؛ طرح الأفكار والاستجابة لها، كما مارستها مئات الأفلام العربية واشتغل عليها مئات المخرجين العرب. أما الفكرة الأساس هنا فتنطلق من أنه منذ زمن بعيد بات واضحاً أنه إذا كان ثمة حيّز يتجلّى فيه بشكل منطقي وبارز، نوع من الوحدة في الذهنيات والأفكار العربية، فإن هذا الحيّز هو الحيّز الثقافي. فمن البديهي أن معظم العرب يقرأون غالباً الكتب نفسها ويعرفون التاريخ نفسه ويطربون للأغاني نفسها ويتابعون المسرحيات نفسها ويشاهدون الأفلام نفسها. صحيح أ أنه كانت هناك على الدوام مآخذ عديدة ، مثلاً، على شيء من المركزية المصرية في هذا المجال، أو العراقية أو السورية أو اللبنانية في ذاك.. غير أن التاريخ الذهني في القرن العشرين وما يليه، يؤكد لنا أن ثمة وحدة - تزداد تبادلية وابتعاداً عن المركزية بالتدريج - ثقافية عربية يمكن التوقف عندها ودراستها.

وفي المجال الذي يهمنا في هذا المشروع، أي السينما، يبدو الأمر أكثر وضوحاً، بحيث إننا إذ نتحدث عن السينمات العربية - من حيث الإنتاج والتعبير - قد يمكننا أيضاً أن نتحدث عن السينما العربية - بالمفرد - من حيث التلقي. وإذا كان في وسعنا أن نقول إن الوقت قد حان للتوقف عند تاريخ ما للسينما العربية، فإننا نرى في الوقت نفسه أن ما هو جدير أكثر بأن نتوقف عنده، إنما هو تاريخ السينما العربية الكبيرة، أي تلك التي على مدى عقود طويلة من عمر السينما العربية عرفت كيف تجعل لنفسها مكانة ثقافية، أولاً لدى نخب المتفرجين العرب ثم في الخارج، كما لاحقاً . خلال انتشارها على التلفزة وما شابهها، لدى المتفرج العربي عموماً. من

وهذه السينما بات لها اليوم تاريخ وأعلام، ناهيك بأنها على عكس السينما الجماهيرية التي يغلب عليها الطابع الاستهلاكي، صارت خلال العقود الأخيرة على أية حال، متعددة المنابع، بحيث إنها مصرية وفلسطينية ولبنانية وجزائرية ومغربية وتونسية وسورية... إلخ، أكثر منها مصرية فقط. ومن هنا فإن مشروعنا، في الوقت الذي نتطلع فيه إلى دراسة ما نسميه بالتاريخ الاجتماعي للسينما العربية - ولا سيما من حيث اشتغال السينما شكلاً ومضموناً على الذهنيات العربية بشكل عام خالقة فيها تلك الطبيعة الثانية، وعلى الأقل في مجالات النظر إلى أمور مثل الحب والعائلة والمال والسلطة والدين والسياسة والمرأة والآخر ... إلخ. نتوخى تقديم تاريخ - هو الأول من نوعه في اللغة العربية - للسينما العربية الكبيرة التي باتت تحمل عشرات التواقيع من صلاح أبو سيف ويوسف شاهين إلى برهان علوية وإيليا سليمان ونوري بوزید وميشال خليفي ومي مصري ونبيل المالح ومحمد ملص ومحمد الأخضر حامينا ومرزاق علواش وجلالي فرحاتي... وغيرهم.

لدراسة هذا التاريخ، ولا سيما في علاقته مع الديناميات الاجتماعية - وتجلياتها في مجالات الإنتاج والتلقي -- جعلنا أساس المشروع الأول دراسة تركيبية/ تحليلية تنطلق من تاريخ السينما العربية بشكل عام إلى تاريخ السينما الإبداعية بشكل خاص، وبخاصة للتوقف مطولاً عند الكيفية التي انتقل فيها الإنتاج السينمائي من كونه لعبة إنتاجية استهلاكية تعيد دائماً إنتاج المواضيع نفسها إلى جمهور لم يعد يرغب في شيء آخر ، إلى كونه عمليات إبداعية تنجز من طريق فنانين أفراد تخطوا الحدود الوطنية ليساهموا معاً في انتاج أعمال بات لها في الحيز الثقافي مكانة الشعر والمسرح والأعمال الأدبية الكبيرة. ولسوف ندرس هنا بالتحديد دور مؤسسات القطاع العام في مصر والجزائر وسورية خاصة في تسهيل عملية الانتقال هذه.

وستأتي هذه الدراسة تدريجية إذ ننطلق في هذا المجلد من دراسة تحليلية للأفلام التي نعتقد أنها تمثل بشكل جيد عينات من الأعمال ذات العلاقة بالمجتمعات التي تعبر عنها، ونشدد هنا على فكرة العينات لأننا نعرف أن ما تضمه دفتا هذا المجلد، ليس سوى نزر يسير من الأربعة آلاف ونيّف من الشرائط التي . حققت في الوطن العربي، والتي لن نذيع سراً إن أكدنا أن الغالبية العظمى منها أفلام مصرية، مع تأكيد إضافي لا بد منه وهو أن نسبة الجيّد إلى الرديء في السينما المصرية تقل كثيراً عنها في السينمات العربية الأخرى، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى أن مصر كانت الوحيدة التي خلقت «صناعة سينمائية» فيما خلق الآخرون أفلاماً، والفارق كبير بين الأمرين بالطبع.

أما في المجلد التالي فنتناول صانعي هذه الأفلام وغيرهم من المخرجين العرب الذين أقل ما يمكن أن يقال عنهم، إنهم تعاطوا مع الفن السينمائي كما يتعاطى بقية المبدعين مع فنونهم الحقيقية، فكانت أعمالهم إبداعاً اجتماعياً يستلهم هموم الوطن والمرحلة بحيث يمكن للباحث الجاد أن يستخلص من تسلسل تلك الأعمال وارتباطها بزمنها نوعاً من السيرورة الفكرية / الجمالية المتكاملة ما يكشف عن الوحدة الداخلية للمتن الإبداعي لكل مخرج، مركزاً على العناصر التي مكنت ذلك المتن من أن يفعل فعله المؤثر في المجتمع.