+A
A-

قوانين السينما ومنطقها هي المحرك الرئيسي لتطور أحداث الفيلم التاريخية

للعمل الفني قواعد وأصول لا يمكن الخروج عنها، والسينما على وجه الخصوص يجب أن تحافظ على روح العمل الأدبي أو الحدث التاريخي الذي تود نقله إلى عالمها وبلغتها، وكثير ما طرحت الأسئلة حول إمكانية السينما كفن في نقل الحدث التاريخي بأمانة ومع المحافظة على جميع أبعاده الأصلية دون تشويه العمل، شريطة أن يكون منطق العمل الفني وقوانينه الذاتية هو المحرك الرئيسي لتطور الأحداث والشخصيات، لأن الحكم على العمل الفني المستمد من حقيقة واقعية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر يجب أن يتم على أسس مستمدة من قوانين العمل الفني ذاته، لا من قوانين الحدث التاريخي أو الواقعي، وتبرير السلوك والمواقف التي يتخذها أبطال هذا العمل يجب أن يكون تبريراً فنياً لا تبريراً من تطور الأحداث التاريخية.

خلال بحثي عن أفلام الحروب والصراعات، استوقفني فيلم فرنسي إيطالي للمخرج الفرنسي روجر راديم بعنوان "الفضيلة والرذيلة" من إنتاج 1964.

يقدم لنا قصة صراع مرير بين الفضيلة والرذيلة من خلال الأحداث الرهيبة التي شهدتها أوروبا بين العامين 1944-1945، عندما غرس وحش النازية الضاري أظافره في جسد المجتمع الأوربي، فأدمى القلوب والأرواح، وحطم كل قيم الحضارة والمدنية. والفيلم يستمد من أحداث هذه الفترة المروعة مادته التاريخية، ولكنه لا يقدم هذه الأحداث تقديماً تسجيلياً، ولا يلتزم بحرفيتها وشخصياتها التاريخية، أنه لا يقدم لنا صورة فوتوغرافية تحتفظ بالملامح الأساسية، كما تحرص على الجزئيات لنهاية الرايخ الثالث، ولكنه يتخذ من هذا الحدث إطاراً لعمله الفني، فمن خلال التغييرات التي أحدثها الانفجار النازي في المجتمع الأوربي، ومن خلال التفكك والتخلخل الذي حاق بهذا المجتمع، تطل علينا قصة الفضيلة والرذيلة بمفهومها الإنساني العام.

"جولييت" و "جستین" شقيقتان فرنسيتان تتعرضان لتجربة واحدة وهي أن وطنهما فرنسا تطؤه أقدام النازي التي تكتسح أوروبا فتمزق شرايين الحياة وتعبث بقيمه وحضارته وتقتل كل ما هو إنساني ورفيع ونبيل، وکأي فرد من أبناء الشعب الفرنسي تجد الفتاتان نفسيهما في قبضة المأساة، وفى مهب رياح الضياع والفقر والحاجة.

وهناك طريقان لا ثالث لهما للإفلات من هذه الأزمة. طريق المعاناة مع الصمود والارتباط بكتل الشعب التي تكافح الوحش الرهيب في استبسال وحرمان وأمل. وطريق الانهيار والاستسلام للأزمة، وتفضيل الحياة السهلة والارتماء في أحضان الغزاة.

وتسلك "جستين" الطريق الأول، فتتمسك بأمّها ومنزلها الفقير وخطيبها المشترك في الكفاح السرى، وتسلك "جولييت" الطريق الثاني، فترفض الوقوف في طوابير طويلة انتظاراً لكسرة خبز جافة وركوب السيارات العمومية المزدحمة، ويغريها بذخ وترف حياة الغزاة فترتمي في أحضان أحد جنرالاتهم المسنين لتصبح عشيقة له.

وتسير كل واحدة في طريقها الخاص إلى أن يقع الحدث الذي يضعهما وجهاً لوجه، ثم تتوالى الأحداث وتموت "جوليت" رغم أن كل فرص الحياة كانت متاحة لها، وتعيش "جستين" رغم أنها كانت تحيا على حافة الحياة ورغم أن الموت لامس رقبتها أكثر من مرة. تموت "جوليت" وتعيش "جستين" لأن منطق البناء الفني قد رسم لكل منهما مصيره المحتوم وهي لعبة ذكية للكاتب والمخرج.

كما ذكرت أن منطق العمل الفني وقوانينه الذاتية هو المحرك الرئيسي لتطور الأحداث والشخصيات، خاصة في الأفلام التاريخية، مثلما فعل كاتب سيناريو فيلم "عمر المختار" هاري كريج، حيث رسم الشخصيات داخل حلبة العمل الفني وقوانينه، وكذلك فيلم "ذهب مع الريح" للمخرج فيكتور فليمنغ والذي برع كتّابه الأربعة في فعل الشيء نفسه، وغيرها من الأفلام التي تحررت من حرفية الأحداث، واعتمدت على إعادة بناء هذا الواقع بما يخدم العمل الفني.