+A
A-

"رواية "الحرام" ليوسف إدريس .. قضية بالغة الحساسية طرحت سينمائيًّا"


قرأنا كثيرا ليوسف إدريس، وقد نحتاج إلى مناقشات خصبة التي تعمق مجرى الحديث عن هذا الروائي العظيم الذي امتلك موهبة فريدة في كتابة الرواية والقصة ورسم الشخصيات والأحداث والأجواء المحيطة بها بدقة متناهية، ومؤخرا وكنوع من إنعاش الذاكرة رجعت لقراءة روايته الخالدة " الحرام" التي جمعت بين الخطيئة والغفران والعاشق والمعشوق، وكانت بحق كما وصفت بأنها النموذج المؤثر في مسيرة حركة الرواية العربية عموما.


ودون أن نخوض في معنى البطولة ونماذجها التي قدمها لنا يوسف إدريس، فيمكن القول إن الشخصية عنده شخصية متطورة، وانحدارها أو صعودها ناتج عن اختيارها لطريق الصعود أو الهبوط. ويحد من انطلاقها أمور تسمى في الفلسفة بالمسائل الحدية مثل الميلاد والموت والقومية والعيوب الخلقية والمواصفات الجسدية، وهي أمور لا نملك إزاءها شيئا، وعندما حولت رواية " الحرام" إلى فيلم سينمائي أثارت ردود فعل متناقضة جدا، فهناك من رفضه كليا، وهناك من تبناه.

الفيلم يتحدث عن قصة آمنة، تلك المرأة الريفية الحلوة الذكية وهي تصارع ظروفها وظروف زوجها في الريف. وهي تمتُّ إلى نوع من العمال المهاجرين. يغتصبها أحد رؤساء العمال وتحمل. والناس يعرفون أن زوجها مريض وقد اشتدت به العلة، وهي ترفض أن يكون لها ابن من الحرام. وتدور الأحداث حول مفهوم الحرام عند أدنى طبقة العمال ثم عند رؤسائهم وناظر الزراعة، وكأننا نقارن بين نوعين من الحرام، أحدهما لله والآخر للمجتمع، لكن أين قصة العمال؟ أين البطولة المعقودة لهم جميعا؟ لا شك أن لنظام النجوم آنذاك دخلا كبيرا في صرف الأحداث؛ لكي يكون محورها فاتن حمامة. فلأن فاتن حمامة هي بطلة الفيلم، فلابد أن يضخم دورها ويصير أكبر الأدوار. والقصة من أجمل قصص يوسف إدريس، ومع ذلك تنقلب إلى قصة امرأة تحمل في الحرام وتلد وتزهق حياة طفلها، ثم ينتهي بها الأمر إلى الجنون والموت. ويختتم الفيلم بتأبينها وتأبين قريتها زمان.
ربما لعب المخرج الراحل هنري بركات في إنقاذ الفيلم بلقطاته الذكية وزواياه الجميلة، وتصاحبه موسيقى سليمان جميل ليقدم الاثنان معا معزوفة أوركسترالية من اللون واللحن. ويغرم بركات في القصة بالأرض ويتغلغل إلى نفوس الفلاحين. ولا نرى الخير خيرا محضا ولا الشر شرا خالصا، لكننا نرى الإنسان حوارا جدليا مستمرا بين الخير وبين الشر. هنا نجد بشرا من لحم ودم وضعف وقوة وألم وأمل وإرادة ونكوص وشجاعة وجبن.
القضية التي طرحها الفيلم بالغة الحساسية والتعقيد، خصوصا ما يتعلق منها بالبعد النفسي؛ باعتباره بعدا دلاليا يترجم العلاقات الأخرى ويرتقي بدلالاتها في انعكاسات انفعالية عاطفية وأخرى سلوكية، وقد استطاع كاتب السيناريو والحوار سعد الدين وهبة، أن يحافظ على روعة الأصل وعمقه، رغم أن العمل الأدبي له اتجاهات دلالية لا نهاية لها، وأذكر في هذا الشأن قصتي القصيرة "بدور" التي كتبتها ونشرتها في بداية الألفية في الصحافة، وطلب مني بعدها كاتبنا القدير حمد الشهابي تحويلها إلى فيلم سينمائي، حيث قام بتغير اسم القصة إلى " كسرة حب" وقدمها بمعالجة سينمائية جميلة لم تبتعد إلا بضع سنتيمترات عن النص الأصلي. وكان المرشح لبطولة هذا الفيلم الذي تدور أحداثه في عام 1973 والذي نتمنى أن يرى النور قريبا، الفنان عصام ناصر والفنانة ابتسام عبدالله.


بصورة عامة أقول إن الرجوع إلى مطالعة الروايات الكلاسيكية العربية فرصة طيبة لزيادة مخزون الذاكرة من طعام الإبداع.