+A
A-

سيدتي الجميلة".. لقطات بارعة في الشكل وقيم جمالية مدروسة

لا يمكن أن تكون عاشقا للسينما ومهتما بعالمها الساحر الجميل، دون أن تشاهد الأفلام الفائزة بجائزة الأوسكار؛ لتتعرف على صاحب الأثر الفني الذي شغل النقاد واستحق صعود المنصة، وبعد بحث لم يدم طويلا شاهدت الفيلم الأمريكي "سيدتي الجميلة" الحائز على جائزة أفضل فيلم عام 1964 للمخرج "جورج كيوكور" وسيناريو "آلان جي لنزر" عن قصة الأديب برناردشو وبطولة الفنانة "أودري هيبورن"، "والفنان ريكس هاريسون. "

قصة الفيلم باختصار تدور حول تجربة عالم لغات وهو البروفيسور "هنري هيجنز "في تحويل بائعة زهور بسيطة "أليزا" إلى سيدة مجتمع مرموقة، وهو طوال التجربة لم تتعد نظرته إلى الفتاة أكثر من كونها مادة للتجربة خاضعة داخل معمله للبحث والتحليل، ثم هي بعد التجربة ليست إلا رمزا لنجاح علمي ذاتي، على أن الإنسان هو الإنسان وإن جعلت منه الظروف مادة ثانية. قد تخفي الثياب مظهره، ولكن لن تخفي حقيقته ومن أي جاء. فالفقير يبقى فقيرا.

ومن اللمحات الجميلة التي قدمها الفيلم الذكاء في تتابع المشاهد بطريقة إيحائية تربط الأحداث وتكاد ترمز إلى الحدث المتوقع مع نمو المواقف، وقد وضح ذلك في المشهد الذي قررت فيه " أليزا "أن تلجأ إلى "هيجنز"؛ لكي تتلقى دروسا في اللغة الانجليزية. إن الخاطر يقفز إلى ذهنها فجأة وهي غارقة في حياتها البسيطة بين أفراد مجتمعها من البائعات، وبعد مجادلة بينها وبين والدها، ثم هي حين يتملكها الخاطر تبتعد بأفكارها عن أفراد هذا المجتمع وتقف على بعد منه تسترجع أقوال "هيجنز" عما تستطيعه اللغة الجيدة من فتح أبواب الفرص أمام من يجيدها، وهي حين يصور لها خيالها مستقبلا جديدا وعملا أرقى، تقرر أن تغتنم الفرصة، حينئذ ينقلنا الفيلم إلى معمل "هيجنز" الصوتي، فنراه يمد يده ليختبر طبقة من طبقات الصوت، الربط والإيحاء في هذا التتابع بين المشهدين واضح، وهو يزداد وضوحا حين نعرف بعد ذلك أن "هيجنز" لم ير في "أليزا" حين قرر أن يلقنها دروس اللغة أكثر من طبقة جديدة للصوت، مادة نادرة لإجراء بحث علمي. 

وحين يقرر "هيجنز" أن يتأكد من نجاح تجربته عن طريق تلبية دعوة لحضور حفل كبير تحضره إحدى أميرات الأسر المالكة في أوروبا، على أن تذهب معه إلى الحفل "أليزا " ترى صديقه "كولنيل بكرنج" يحاول بشتى الوسائل أن يثنيه عن عزمه. هنا نجد براعة في المعالجة حين نرى المناقشة تبدأ على مائدة العشاء على مقربة أيام من الحفل، ثم ترى الكاميرا تركز على "بكرنج"، وفجأة نرى "بكرنج" مرة أخرى يواصل نفس الحديث، ولكنه هذه المرة بملابس السهرة؛ استعدادا للتوجه إلى الحفل. يخاطبنا الفيلم هنا بلغة سينمائية صرفه ليوجز لنا وحدة الموضوع رغم مرور الزمن. لمحة ذكية تقفز فوق رتابة التسلسل التقليدي لتتابع الأحداث

إلى جانب ذلك امتازت بعض المشاهد بالخصوبة والثراء من ناحية التصوير، فقدم لنا الفيلم عند بدايته موجة زاخرة من اللقطات المتعددة الزوايا، مختلفة البعد ، وكذلك في بداية الجزء الثاني من الفيلم. وقد امتاز هذا الجزء الأخير بالذات وبالتحديد في المشاهد الخاصة بالاحتفال الذي حضرته "اليزا " بوضوح التعبير باللغة السينمائية المجردة ونقصد بها لغة الصورة. فلم نسمع منذ البداية إلا قليل من كلمات الحوار، ثم قدم لنا الفيلم عن طريق الصورة وبالحركة والأداء والموسيقى مواقف غاية في التعبير، المؤثر والواضح

وأهم ما يمكن قوله في هذا الصدد أيضا أن الفيلم قد امتاز بتقديم لقطات بارعة من ناحية الشكل لاحتوائها على قيم جمالية مدروسة، وكذلك استعمل الفيلم طريقة "الكادرات الثابتة" لإيضاح المعاني المختلفة للقصة.

إن هذا الفيلم الذي يقدم مادة دسمة غزيرة من الإبداع في صورة جذابة، استحق أن يكون من بين أفضل  100 فيلم أمريكي، ليس بسبب مضمونة الاجتماعي فحسب، وإنما أيضا بسبب الناحية الفنية، حيث استطاع المخرج "جورج كيوكور" أن يقدم شيء مختلف تماما عن الكلمات الجميلة التي تضمنتها القصة الأصلية للعمل، واستطاع كذلك أن يغلف الفيلم بغلاف إنساني رقيق لا يمكن أن يقدمه إلا مخرج فذ تتوفر له كل مقومات النجاح.

وتمثيلا ابدعت الفنانة " اودري هيبورن" في الصبغات والتأثيرات النفسية والسيكولوجية لخدمة النص، ونقل عملية التأثير للمشاهد خاصة في حقيقة شعورها الداخلي العميق، اما الفنان "ريكس هاريسون" فظل ممسكا بناصية الأمور لمراحل انفعالات دوره الطويل، ومحافظته على طاقته في جميع المشاهد ما جعل منه صاحب أسلوب خاص " خيال ، وذكاء، وصنعة"  استحق عليه جائزة الاوسكار لأفضل ممثل عن هذا الفيلم.