+A
A-

فيلم FELLINI SATRICON انهيار كافة التحصينات التي تحيط بالذات الفردية

يبدو لي ان المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني عندما شرع في تصوير فيلمه المثير الغريب "ساتريكون فيلليني" عام 1969 وكتب السيناريو أيضا، أراد أن يكون القدر النفساني أقرب ما يكون للقدر الروماني من حيث إحكام قبضته على مصائر الشخوص وسيطرته على مجريات الأحداث، فما يقع على الناس من أحداث مصدره أنفسهم التي طبعوا عليها والتي لا يستطيعون أن يتحولوا عنها كي لا يكونوا ما هم عليه.

إن قوى البيولوجيا والبيئة الكامنة فيهم والظاهرة هي التي تصوغ حياتهم. وإن فكرة "ساتريكون" والتي هي من الأساس رواية من تأليف كاتب روماني عاش في القرن الأول الميلادي تصوير للمجتمع الروماني القديم والوراثة والبيئة، ومدى ما وصل إليه إنسان ذلك العصر من انحطاط وانهيار مطلق وكامل للأخلاق.

الفيلم يكشفك أمام نفسك، إذ إنه يحررك من القناع الذي تضعه على وجهك. يجردك من الملابس التي تلف جسدك. إنه عملية تشريح للنفس البشرية في أبشع حالاتها وفي انطلاقها مع غرائزها. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن.. لماذا اختار فيلليني هذه الرواية القديمة التي تحدث في الدولة الرومانية؟ نعرف أن الدولة الرومانية قد بلغ فيها الفساد في يوم الى حد لا يمكن أن يتخيله بشر، فهل توجد رابطة ما بين هذا الذي كان يحدث في أيام الدولة الرومانية وما يحدث في عالم اليوم..؟

ليس هناك قصة في الفيلم، وانما لعنة غير منتهية من المواقف والمناظر المتعددة يربط بينها جميعا لحظة تاريخية، وهذه اللحظة هي اللحظة التي انهارت بعدها الدولة الرومانية. شذوذ وقتل وتعذيب، وخيانة ومشاهد مقرفة مقززة مخيفة لا يمكن التحدث عنها ووصفها، وكأن بفيلليني كان صادقا مع نفسه، حيث استطاع أن يعبر عن أغوار هذه النفس البشرية التي هي في رأيه النفوس البشرية جمعاء وعبر عنها بلا زيف وبلا رياء. فهو قد جسم الأقوال إلى أفعال، كيف؟ إننا نقول مثلا إن الرجال في عالم اليوم قد تحولوا إلى نساء، وهذه حقيقة. ونحن نقول إن الإنسان يحارب أخاه الإنسان ويريد أن يقتله فيترجم فيلليني هذه العبارة إلى صورة معاشة، وذلك عندما نرى البطل في الحلبة ورجل يلبس قناع حيوان يحاول أن يقتله. ومعنى ذلك كله يريد أن يقول إن هذه الرواية ليست رواية تاريخية ولكنها رواية معاصرة. إنها رواية معاشة فعلا. كما أنه – أي فيلليني – يريد أن يشبه عالم اليوم بعالم الحضارة الرومانية التي سقطت والمنتظر اذن ان تسقط حضارة عالم اليوم.

إن الفيلم خيالي.. ورؤيا بشعة للإنسان عندما تنحط قيمته وتتغلب عليه غرائزه ويتراجع عقله ويتحول إلى نوع من الوحوش اللاإنسانية، ولكن إذا كان الإنسان هو عين مصيره، فلا يمكن أن يكون هناك خلاص وإنما دائرة لا تنتهي من الخطيئة والذنب.

لقد شخص فيلليني مرض العصر الحاضر وانهيار كافة التحصينات التي تحيط بالذات الفردية في هذا الفيلم بالحركة والإيقاع والانفعال النفسي وبأسلوبه الخلاب وشخصيته القوية، وبراعته بخلق التوترات المكانية في داخل كل لقطة، وسيبقى فيلما له كيانه المستقل، ومعبرا عن الرؤيا الداخلية لفيلليني بمظهرها وجوهرها، وهي أن كل الضجيج العارم الذي نعيشه اليوم، سيظهر لنا الحيوان في شخص رجل متنكر!

لقد اتخذ من المادة التراثية المنفتحة على الأزمنة مادته الأساسية بحيث بدت وكأنها تعاصر الاحداث وتجيب على تساؤلات حديثة. ركامات القيم القديمة ليظهرها وكأنها قضية الانسان المعاصر، والحبكة مكرسة لإبراز ضياع الإنسان