+A
A-

يوجين يونسكو.. الخزانة العامة للقلق الإنساني

لقد خلف الكاتب المسرحي العظيم يوجين يونسكو اثرا لا يمحى في تاريخ المسرح العالمي، حتى ان بعضهم أطلق عليه لقب " الخزانة العامة " للقلق الإنساني الشديد، وفي كل مرة نعيد ونقرأ مسرحياته نكتشف ان المناقشة فيها مفتوحة والجدل مستعر الى يومنا هذا، والامر الذي لا جدال فيه، هو ان يونسكو يعطي المتفرج وكل قارئ وقتا للتأمل.

ومسرح يونسكو نادرا ما تجد فيه العظات او الحلول، فهو يقدم لك الانسان المعاصر بمشاكل ضياعه في غمار المذاهب والتكتلات، وقلقه في زحام المدينة، وجزعه امام رهبة الموت. يقدمه إليك - تقديم فنان واع - بعدسة مقعره تتركز فيها كل جزئيات متاعبه اليومية، ومرارته النفسية، واصداء صراعه الكظيم مع العوامل الخارجية.  فلا تنكر " الانسان اليونوسكوي " اذ تراه على خشبة المسرح، حائرا، يضج بكل ما يرزح تحته من شواغل وهموم، فأنه " انت" على نحو من الانحناء. وفي حديث له عن نفسه يجيب عن هذا النهج المميز بكلمات شديدة البساطة:

" لست داعيا حتى أقدم الدروس ومفاتيح الحلول. كما أنى لا اعتمد على نصوص مقدسة، او عقيدة جامدة، او ترتيبات مجهزة، فليست لدى وصفات جاهزة. اذ انني اطلب التفسيرات ولا أقدمها".

فهو إذن يعرض ما يحسه ويدع ذلك لك انت ان تتولى بنفسك التنقيب في ذاتك أنت..عن الحل ، عن الرأي، عن المقترح. يونسكو بارع اقصى حدود البراعة في مزج الكوميديا بالتراجيديا، فاذا هو من هذا الكوكتيل يخرج مزاجا له بريق الجديد ولمعانه، وله كذلك اطار القديم ومقوماته. مؤمنا في ذلك الخلط بأن الانسان يتعايش في داخله كل من هذين المتناقضين.

 ان تفاعل الكوميديا مع التراجيديا يمكنهما بهذا التعارض والتوافق ان يؤلفا توازنا ديناميكيا.

ولا يكاد المرء يسلم برأيه هذا الا وتتوارد على الذهن لمحات من مواقف لماحة ذكية أبرزها ابطال مسرحه. ففي مسرحية " الخرتيت " نجد تلك الشخصية البديعة المسماة: "المنطقي" وهى تجادل وتناقش وتعقد وتتفلسف على الطريقة البيزنطية التي لا تؤدى ودائما الى اي شيء، هذا المنطقي الصاخب عندما يجرفه عباب التحول، ويصبح بدوره مثل الكثيرين خرتيتا ، نجده متميزا عن بقية الخراتيت الاخرى العادية بسمة  شكلية ثانية.

عندما تقرأ يونسكو ستجد المرض مع الجمال، الحرارة والعنف. سيهزك ويتركك حائرا بعبقرتيه الخلاقة والنادرة، سيعطيك دور بطولة ودور ثانوي وعليك ان تختار علما بأن الابطال عنده يكادون يتساوون في حمل نصيبهم من كل شيء.

لذلك أتمنى من مسارحنا الأهلية أن تعيد مسرحيات يونسكو بقواعدها الفنية حتى يطلع عليها أبناء هذا الجيل الذي يتخبط على أوسع قاعدة.