+A
A-

زغنبوت.. فصل من سيرة الجوع والخوف المستمرة

مسرحية "زغنبوت" للكاتب القدير إسماعيل عبدالله وإخراج محمد العامري، تنتمي من قريب او بعيد الى وجداننا الشعبي الأصيل وتستلهم من تراثه أساليب جديدة للتعبير، وفي تقديري انها تحتوي على مضمون ذي هدف ثوري فضلا على انها تدعو الى تحطيم أي جدار يعوق الانسان عن الازدهار والانطلاق.

ما يميز الكاتب إسماعيل عبدالله هو استلهامه من تراثنا الشعبي شكل الملحمة، فجاءت مسرحية "زغنبوت" أقرب ما تكون الى الملاحم الشعبية التي تحكي قصة كفاح شعب ضد الطامعين.

بعد عرض المسرحية في مهرجان المسرح العربي في دورته الرابعة عشرة التي تستضيفها بغداد، عقبت الناقدة البحرينية زهراء المنصور على المسرحية في الاستوديو التحليلي، وفيما يلي تنشر "البلاد" جزء من التعقيب:

يستعين عرض "زغنبوت" بهرم الاحتياجات عند الإنسان، الذي قدمه "ماسلو" عن نظرية الدافع البشري، وكيف للفرد أن يتصرف وفق ما يحتاج خوضه حسب حاجته الآنية، وليست المعتادة. ففي وقت ما قبل ظهور النفط في منطقة الخليج، سادت فترة قحط اضطر فيها الناس للتصارع على "الزغنبوت"، وهي الذرة الرفيعة وعلف الحيوانات غير الصالح للاستهلاك الآدمي. ويقع الطعام/الغذاء ضمن الحاجات الأساسية "الفسيولوجية" التي لا بد أن تتحقق للفرد ليحيا حياة آدمية؛ لذلك يتساوى الجميع تحت قرقعة الأواني التي تطلب سد هذا الجوع، وهذا ينطبق على كبار القوم الذين يعدّون حبات التمر المتبقية، ويتوعدون من تسول له نفسه سد جوعه في غير الأوقات المخصصة! حتى وقت ظهور "البانيان"؛ المعادل لفكرة المنقذ، أو المخلص من الجوع، والمنعم بالخيرات على الجميع، ولكن بالنسخة الاستغلالية التي تريد الاستيلاء على مقدرات أخرى لا تقدر بثمن. وهنا يدخل الكاتب إسماعيل عبدالله في ثاني الاحتياجات الأساسية، وهو الأمان الجمعي الذي سيفقد بمجرد تحقيق ما يريده المستفيد الجديد. فمن الذي سيختار؟ ومن الذي سيبقى على آدميته، رغم الخسارة؟

حسناً اختار المؤلف في الجوع مدخلاً لنصه؛ إذ تجلب هذه الحاجة الأساسية الملحة كل الأشياء بعدها. مع الجوع يتجرأ الأب في قرار أن تخدم ابنته الصغيرة عند البانيان كـ"غلام"، ويحلق شعرها وسط هلع والدتها من أن توصف بـ"المعيوبة" بعد أن يحصل التشوه النفسي لها في الخدمة! أو في إرسال رجل لزوجته -الحرة بنت الأحرار- حتى تخدم في بيت الطواش الذي يعلم الجميع استباحته لشرف خدمه، ويعول على ذاكرة الناس التي تنسى "..ومع الوقت، الناس بينسون إني في يوم كنت أمْرد" -أي حليق الوجه- رداً على معايرة زوجته بإقران الرجولة باللحية والشارب، أو الشاب الذي قرر التخلص من والده وتركه لرحمة الله، بعد أن عجز عن إطعامه، وأصبح عبئاً ثقيلاً لا يستطيعه، وغيرها من الحوادث التي تردد أن "الجوع كافر"، فيها يختبر المرء أولوياته وإنسانيته وأخلاقه التي يغيرها مدى إيمانه ومدى قدرته على التحمل وإدارة الأمور، دون أن يكون هناك تأثر بما انتخبه الملا عبدالرحمن من سورة البقرة "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالْنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشرِ الصَّابِرِينَ" في الحقيقة أن الثوابت الدينية أو المجتمعية في وضع صعب، تعتبر من الرفاهيات في هذه الحالة، ومحل حيرة كبيرة باعتبار التقاطع بين المرغوب لتيسره، وحرمانيته، والمنهي عنه.

لِمَ البانيان تحديداً؟

تبدو مفردة "البانيان" مألوفة في المجتمع الخليجي، والمقصود بهم فئة الهنود غير المسلمين. وقد استعان عرض "زغنبوت" بهذه الشخصية التي عرفت منذ أكثر من قرنين بالتجارة، وكان عمل البانيان كأفراد وتجار ووسطاء بتجارة اللؤلؤ بين الخليج والهند قبل العام 1700م، ولكن دون السكن بالمنطقة. وتستخدم لفظة البانيان أيضاً للإشارة إلى مجتمعات التجار المغتربين، المهاجرين من جنوب آسيا إلى الخليج.

في حين قدمه العرض على أنه من يلوح بتغيير الوضع، ليس فقط من الجوع للشبع، بل للرفاهية التي تدغدغ رغبات البشر في ذاك الوقت العسير بكل شيء إلا الحلم بسد جوع البطون. وقد كان بالإمكان اختيار شخصية أخرى تنسب إلى أي جهة غير معروفة، أو من الخيال، وبالذات أن العرض لم يقدم بالطريقة الكلاسيكية التي تفرض نمطاً أو شكلاً محدداً يحاسب عليه، فيما لو قدمه بعيداً عن واقعه. فهل تم اختيار البانيان تكريساً لفكرة الغريب المتأصل في المجتمع؟ أو لأن الخليج بأكمله على علاقة تجارية قديمة بالهند، في الخشب والبهارات وتجارة اللؤلؤ وغيرها، ووجوده منطقي في عرض معني بفترة محددة ومجتمع معروف، عدا عن كونه رمزاً للمال، ومن ثم السلطة في زمن الحاجة؟ كلها أسئلة تحتاج لإجابة أو لتأويل يفسر هذه الإشارة أو يمنطقها.

لكن كم غريب متأصل أو طارئ ينشد الخيرات في مجتمعات الخليج؟

داوود: المحور

رسم العرض تاريخاً جيداً يلم بالشخصية؛ سواء عبر التعريف المباشر، أو عبر الشخصيات الأخرى التي تعرّف المتلقي دوافع الفعل لدى أي أحد. لكن يبقى هذا الصامت في أرجوحته بوسط الخشبة لا ينطق أي كلمة طوال العرض، رغم أن كل الحديث يدور حوله، أو في فلكه، بما يحمل في محمله، وكل الحكاية متصلة به؛ بينه وبين الناس/ المجتمع الذي قدم عليه. ففي الظاهر، هو بطل الحكاية، لكن في الباطن، داوود هو الشخصية المحورية التي تدير الأحداث في الظاهر وفي الباطن. داوود ذو الاسم المشتق من الأصل العبري التوراتي، منذ ظهوره الأول في الهيئة المختلفة عن الآخرين موقفاً وشكلاً، كان ينبئ عن عمق مختلف لمن هم في نفس الكفة، حتى في اختيار المخرج له بين الكبار: النوخذة حشر الدواس والطواش المر -ولكل اسم منهما معناه المباشر الذي يصب في صفاته-، وهو يتوسطهما حين عرّفا بنفسيهما بشكل مباشر في مواجهة الجمهور، الذي يعرف عن عقدة داوود الأولى أنه بلا أصل ولا فصل، وافد جديد نسبياً على المنطقة، لكنه استطاع أن يكون من مراكز القوة في وقت قصير، لذا يطعن في موازين الآخرين الذين يذكرونه بما هو عليه، ويعلن أن هذه الموازين البائدة تغيرت إلى المال والقوة والسلطة التي لم تعد بمتناول الآخرين سوى موكله البانيان، والحقيقة أنه من يدير اللعبة كلها، ويستخدم التوكيل كذريعة لكي يصل إلى مبتغاه الشخصي، مستخدماً ما يشبه نظرية "الغرس الثقافي" التي تعنى بالأشخاص الذين يتعرضون لمشاهدة التلفزيون بشكل مكثف، ويعتقدون أن ما يشاهدونه هو مطابق للواقع. كيف لا، وهو يقبض على السلطة والإعلام في نشر الأخبار ونقل معلومات بشكل موجه؟ وهو يفعل هذا من خلال تكرار التخويف للعامة بالجوع مجدداً، حتى يخلق منهم طبقة رأي عام، تفرض رأيها على النوخذة حشر الدواس فيرضخ معتقداً الصواب! فالخوف يجعل الناس أكثر عبودية وخنوعاً لمستحوذي السلطة من أمثال داوود.

نظرة "الزغنبوت" للأنثى

القضية الأساسية هنا هي "الجوهرة"، مطمع البانيان، بحسب توصيات وكيله داوود. في البداية، يكون التركيز على الرفض، لا لأجل الجوهرة بذاتها، ولكن لأن الموضوع كان مستنكراً؛ لأنها بنت النوخذة التي يجب أن تتزوج من يساويها في المكانة، وليس أي فرد، مثل حبيبها "ذياب" الذي يمكن أن يرفض لو تقدم لخطبتها في ظروف غير ظروف القحط. فكيف أن تتزوج بغريب ليس من دينها، ولا ابن مجتمعها أو بيئتها؟ مع التنويه أن هذا الزواج ليس قائماً على إعجاب من قبل الخاطب، بل ترشيحاً من قبل داوود الذي يريد أن يصيب هذا المجتمع في مقتل عبر تفكيك ثوابته؛ زواج أجمل البنات، وبنت النوخذة المتحكم في أرزاق آخرين. ولو كانت الزيجة قد تمت بالمواصفات المذكورة، فسيكون من السهل تكرارها مع أخريات أقل حظوة من الجوهرة في مواصفاتها! فيما ستنجح خطة داوود في إسقاط أول أساس في المجتمع: الزوجة أو الأم!

لعبة السينوغرافيا

وعلى أن إسماعيل عبدالله كتب النص متصوراً شكل المتاهة التي تصنع الحركة نحو النجاة، أو المساعدة، أو الهروب، أو الوصول لحائط سد وقت انعدام الأمل وغيرها، لكن كان للمخرج وجهة نظر مختلفة؛ إذ قام بتقسيم المسرح لمراكز قوة وضعف ومعادلات، وتصدرت الإضاءة البطولة في عناصر السينوغرافيا؛ حيث تنوّعت بشكل سريع عبر عن تسارع المشاهد، واختلاف الحوارات في نفس المكان، وهو استغلال حسن لخشبة لا يتواجد عليها ديكور، إلا من بعض الكراسي المصفوفة على الجنبين، إضافة إلى القطع التي استخدمت مثل قضبان لاحقاً، لكن المؤلف أكد على أن تكون من الخشب والبامبو الهندي المعروف؛ تكريساً لهيمنة ووجود البانيان، إضافة إلى القدرة على استخراج مؤثرات صوتية من قرقعة الأواني في يد البسطاء ممن يتقاسمون "الزغنبوت"، وكل تلك العناصر، مع أزياء الممثلين الذين لبس أغلبهم الملابس الرثة التي أساسها "الخيش" للدلالة المادية والرمزية على ما وصلوا إليه من فقر مدقع، في الوقت الذي قارب النوخذة والطواش لملابس العامة، من حيث اللون وليس الهيئة التي بدا أنها أفضل منهم، وبغض النظر عن ملابس البانيان المختلفة الزاهية، يظهر داوود بثوب مهند بلون عنابي، أو دم الغزال، وهو لون يشير في أحد معانيه إلى التصميم والقوة.

ولعب المخرج على مشهد احتفالية الزواج بين الجوهرة والبانيان، في تواجد الحضور بملابس هندية تناسب أجواء الفرح "المفترضة"، عدا النوخذة والطواش، مع تغطية وجوههم بشكل مموه، تسمح للممثلة أن تستخدم الألوان، كما في مهرجان "هولي" الهندي الذي يقام بمناسبة الحصاد والخصوبة، ولكن ليس لإطلاقها في الهواء الطلق إشاعة للفرح والبهجة، بل لتفرك بها وجوههم التي سمحت ومررت هذه الزيجة، رغم رفضها الشخصي، وعدم قبول الشريعة والأعراف بهذا، في مشهد جميل بصرياً، ولكنه يئنّ بالحزن على المصير الجماعي الذي جلبه لهم الضعف والخنوع ووصمة العار الأبدية.

وكان من الممكن أن ينتهي العرض إلى هنا، وبحسب مؤشرات وقراءة الواقع، لكن شرارة الأمل في الثوار؛ في ذياب الذي لم يرضخ للسلطة التي تحرمه حبه وأرضه وهويته، وحبيبته التي لم ولن تتخلى عنه ما دام يحميها بروحه وبدمه، ولا يعني زواجها هذا الاطمئنان الكامل أن الأمور مرت كما يجب، بل يتحمل المتلقي جزءاً كبيراً منها عند نزول الحبيبين بصحبة الملا/ المشرع؛ لأننا -كجمهور- شهود يجب أن نشهد بالحق، وأن "الزعنبوت" لا يعني فقط أكل البهائم الذي كان الناس يتصارعون عليه في البداية، بل هو في معناه الآخر: السم المميت الذي نتجرعه في سكوتنا عن الحق، رغم رؤيتنا له بوضوح.