+A
A-

"أفلام الموجة الجديدة.. المعاناة الإنسانية والغربة والخوف والغموض"

دراسة الشخصيات في أفلام ما تسمى بالموجة الجديدة في السينما التي ظهرت منتصف الخمسينيات معقدة جدًّا، بحيث تجبر المتلقي المهتم مشاهدة الفيلم عدة مرات لكي يستطيع أن يصل إلى استظهار بعض التفاصيل بصورة أكثر أمانة، فلهذه الأفلام شروط خاصة والعنصر المشترك الأول بين مخرجي الموجة الجديدة، هو أنهم لا ينضوون تحت لواء قاعدة ثابتة، والعنصر المشترك الثاني هو غلبة العفوية والسعي وراء اللحظة العابرة في أعمالهم ثم الهيام بالغموض، حيث تبحث شخصيات هذه الأفلام دائمًا وأبدًا عن ذاتها وهي ليست واثقة من حقيقة أين تبدأ الحياة وأين ينتهي الحلم.

عمومًا إذا تركنا الحديث عن الخيط المشترك بين مخرجي هذه الموجة فإننا نستطيع أن نتبيّن وجود بعض العناصر التي اعتمدت عليها هذه الموجة بصورة عامة.


أول هذه العناصر العامة هو الارتجال الذي وصل في بعض هذه الأفلام حد الابتذال، والارتجال هنا مصطلح سینمائی یعني الاعتماد على مخطط عام للبناء السينمائي ينطلق منه الممثل ويقوم هو نفسه بوضع تفاصيل الحركة والحوار أمام الكاميرا.


بالرغم من جدة عناصر هذه الموجة والتي أخذت أشكالًا صارخة جعلتها تبدو وكأنها تحطم تمامًا كل الأعراف السائدة في الوسط السينمائي، فإننا نجد أن ذلك إنما هو تعميم فيه الكثير من المبالغة. يذكر لنا "روجر مانفيل" في كتابه "السينما الجديدة في أوروبا" أن بعض مميزات كثيرة في أفلام وآراء جيل ما بعد الحرب، فلقد تحدّث انطونيونى قبل أن تندفع هذه الموجة قائلًا: "الموجة الجديدة التي كثر الحديث عنها لها جذور".

ونحن نعرف بأن أفلام انطونيوني تكاد تخلو من الحبكة، رغم أن أسلوبه في المعالجة وتكنيكه مغاير للفكرة الديناميكية التي نجدها في أفلام الموجه الجديدة.


كل أفلام الموجة الجديدة تحمل في مواضيعها الموت والضياع وتداخل المحور الرئيس للقصة في محور آخر، كما في فيلم "العام السابق في مارينابد" للمخرج الآن رينيه الذي كسر القاعدة وخالف ما هو متعارف عليه في بناء الفيلم كالمكان، والزمان، والحدث والشخصيات، فالفيلم يخلو من التسلسل الزمني بشقيه الآلي والتقويمي، فهو يعتمد على الذكريات وعلى وجود وشكل الحلم، وبدايته على لسان الراوية قصد بها المخرج إدخالنا إلى هذا الجو، والراوية هنا وسيلة لكنها جزء من البناء وليست خارجه، ويجب أن نلغي الزمن عند التحامنا بأحداث الفيلم وصوره، ويجب أن تلغى علاقة الأحداث وعلاقتنا بالماضي على أنه الزمن الذي يرتبط بالمكان والحقائق الخارجية، وعندنا نقوم بعملية الإلغاء هذه نستطيع أن نفهم ما يقوله كاتب الفيلم روب كرييه في البداية "ليست هناك سنة ماضية، "ومارينباد" لم تعد موجودة على أية خارطة. عندما ينتصر الماضي يصبح مجرد حاضر كما لو أنه لم يكن أبدًا غير هذا الحاضر".


وكذلك نجد أفلام "فرنسوا تروفو" و"غودار" وغيرهم من المخرجين الذين يبحثون عن مشاهد نموذجي واع ليفهم طريقة السرد المشدودة والعناصر الرمزية، والرؤية الجمالية المخبأة في مسار اللقطات التي تفجر الأفكار في أذهان المشاهد، بصياغة حديثة معقدة تكشف لنا مباشرة عن أهمية وخاصية أفلام الموجة الجديدة من حيث التكنيك والمضمون والمواقف والأحداث والشخصيات، ومعالجة واقع الحياة بحركة تناغم تصاعدية بين النفس الملحمي المتحرر والتجسيد الواقعي للأحداث.


بقي أن نقول بما أن السينما تملك القدرة على الانتقال إلى أنحاء كثيرة من العالم لتراقب ما يجري في الحياة ذاتها وتنتقي منه ما يناسبها، فقد استطاعت أفلام الموجة الجديدة بكسرها القوانين واللوائح وصرخة احتجاجها أن تجرفنا إلى صحرائها الخاصة وعالمها.. عالم المعاناة الإنسانية والغربة والخوف من المجهول الذي يمزّق الأعصاب.