+A
A-

السينما مدينة للأدب..جدل يتأرجح دون الوصول إلى مرحلة الثبات"

لقد كانت السينما على الدوام مدينة للأدب في كثير من بحوثها وانجازاتها، لأن العملية الفنية المعاصرة تتميز بتركيب الفنون جميعا، ونحن نلاحظ في كل أنواع الفنون كيف أن هذا النوع أو ذاك منها يقتبس من جاره ويحاول ضمن هذه الوحدة أن يعالج المهام الخاصة به.
إن السينما تمارس تأثيرها على الأدب، وكذلك فالأدب كان ولا يزال يؤثر من جهته على السينما، ومن الأفلام التي مازالت راسخة في الذاكرة بتأثيره وابتعاده عن الطبيعة المألوفة، الفيلم الروائي الطويل "اليازرلي" للمخرج العراقي الكبير قيس الزبيدي والمأخوذ عن قصة "على الأكياس" لحنا مينا. فقد استطاع المخرج الزبيدي وهو من كتب سيناريو الفيلم أن يقوم بمعالجة درامية لقصة "على الاكياس" تتميز بالعصرية، فقد حول القصة إلى مادة صاغ منها دراما ذات طابع ملحمي شعري، أراد أن يقول من خلالها أشياء تفترق تمام الافتراق عما تقوله القصة الاصلية.
قيس الزبيدي في هذا الفيلم كشف عن ميله الى التعامل مع الأفكار، كتكثيف مجرد للواقع، أكثر من ميله الى التعامل مع الواقع ذاته مباشرة، فلقد قدم الواقع في الفيلم من خلال فرضيات، قد تكون بحد ذاتها صحيحة نظريا، وتتابع على الشاشة كأمثلة لتبرير تلك الفرضيات، وطريقة التبرير هذه، وإن اعتمدت قرائن وعناصر مجربة من مناهج فنية مختلفة، لم تصل بصاحبها وبالمادة التي يعالجها إلى قوة الاقناع المطلوبة، وهو أمر له خطورته الكبرى في الفن.
ينطوي التجريب في الإخراج مع أهميته وضرورته على نزعه تسيء الى حياة العمل الفني، والأفكار التي قالها في الفيلم ليس لها أية أهمية استثنائية، ولكن كيفية قولها هي الجديرة بالاهتمام والدراسة.
وهناك أفلام أخرى شبيهه بالمعالجة الأسلوبية للزبيدي مثل فيلم "مسكن الروح" للمخرج الدانماركي بيل اوجست الحائز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، واوسكار أحسن فيلم اجنبي. الفيلم مأخوذ عن رواية الكاتبة الشيلية ايزابيل اللندي عام 1993، وبالرغم من أحداثها التي تدور في شيلي بأمريكا الجنوبية، الا ان المخرج بيل فاجأنا جميعا بفيلم جميل قدمه بلغة بسيطة، آسرة، رصينة أميل إلى الكلاسيكية، مرثية رقيقة مفعمة بأنبل المشاعر واستخدم رؤيته الخاصة كمخرج سينمائي يضع الفيلم في أفق خصب من حيث علاقته بالأدب خاصة وبالفنون الأخرى عموما. بمعنى قام بيل بمعالجة تتفق ورؤيته والتزامه بالصيغة السينمائية الى حد كبير.
كما قدم المخرج المصري الكبير صلاح ابوسيف فيلم "القاهرة 30" المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" التي كتبها عام 1938 ولم تنشر الا عام 1945، فبعد مشاكل مع الرقابة تم اجازتها وقدمها ابوسيف للسينما مستعينا بوفية خيري في كتابة السيناريو، وعندما عرضوه على نجيب محفوظ قال.. إنه أحسن ما كتب عن القصة.

وعلى الطرف الأخر من الضفة نجد أن من أهم كبار الكتاب والمفكرين الذين عرفوا بمواقفهم السلبية ضد السينما، اندريه مالرو. ففي بداية حياته تفرغ للسينما وكتب دراسة بعنوان "تخطيط لسيكولوجيا السينما" وكانت تلك الفترة فترة الانبهار العام بالسينما، ولكنه بعد ذلك دخلت علاقته مع السينما بخيبة وهجران، ووقف ضد نقل الأدب إلى السينما والتلفزيون وقال:
"حين يجسد جيرار فيليب بطل "ستندال" دیر بار، فهو لا يتصور البطل الملموس في الرواية، بل آخر مختصر إلى سيرته الذاتية. ولا يحصل هنا التطابق بين الفيلم والرواية، بل بين الروايتين الأولى التي تسرد الرواية الأصلية والثانية التي يرويها الفيلم. لقد حاول الفيلم عامة أن يجد في الحبكة معادلا للكتاب".
ونفهم من كلام مالرو أن هناك نصوصا قد تكون صالحة للقراءة لا للعرض، مهما حاول المخرج على بث الحياة في النص، ويبقى الجدل حول هذا الموضوع – الادب والسينما – يتأرجح دون الوصول إلى مرحلة الثبات.