+A
A-

العلاقات العربية الصينية بلغت مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة

تاريخ عريق جمع بين أمتين ضاربتين في العراقة، وحضارات بشرية من الغنى والتنوع والثراء، استطاعت أن تشكل إرثًا إنسانيًا عالميًا فريدًا، وتنشر أثرها وتأثيرها عبر العصور على العالم أجمع.


الأمتان العربية والصينية، بما تحتضنانه من أقدم الحضارات البشرية على وجه الأرض، سواء تلك التي نشأت شرقًا على ضفاف النهر الأصفر ونهر يانغتسي إبّان العصر الحجري، أو تلك التي نشأت في الشرق الأوسط على ضفاف نهريّ دجلة والفرات في بلاد الرافدين والشام، وضفاف النيل وسهوله في مصر القديمة، وصحارى ووديان شبه الجزيرة العربية، تزخر بالكثير من السمات والعوامل المشتركة التي مكنت شعوبها من مد جسور التواصل وإقامة علاقات تعاون منذ الأزل، لم تحدّها الجغرافيا المترامية الأطراف، ومهدت لعصر حديث من الشراكة الاستراتيجية العربية-الصينية، أخذت سمات ومسارات أكثر تطورًا، وقوة، واستدامة.

العلاقات العربية الصينية المعاصرة

ومنذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدأت العلاقات العربية الصينية بمفهومها المؤسسي الحديث، تأخذ طابعًا دبلوماسيًا ورسميًا أكثر نضوجًا واستقرارًا واتزانًا ورسوخًا، ميز العلاقات بين الجانبين منذ تأسيسها، ومن ثم انطلقت بعدها عقود من التعاون المثمر والبناء والتقارب على كافة المستويات، وصولًا إلى الشراكة الاستراتيجية المتميزة بين الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية.

وتتميز السياسة والدبلوماسية الصينية مع الدول العربية بانتهاج مبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وسيادتها، ودعم القضايا العربية المصيرية العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والوقوف إلى جانب الشعوب العربية ومساندتها من خلال تبني مواقف داعمة ومساندة لها بما يضمن أمنها واستقرارها، وتبني خيارات الحوار والسلام، والحلول الدبلوماسية كخيارات استراتيجية تحقق الأمن والسلم في المنطقة، بالشراكة مع الأطراف الفاعلة والدول المؤثرة في إطار من التعاون والشراكة الناجحة على كافة الأصعدة والمستويات.

وفي هذا الإطار حرصت الدول العربية سواء عبر علاقاتها الثنائية مع الصين أو في إطار جامعة الدول العربية ككتلة إقليمية مؤثرة، على الدفع بأشكال هذا التعاون وترجمته على أرض الواقع من خلال تتويج العمل العربي الصيني المشترك بتأسيس منظومة إقليمية تضم جمهورية الصين الشعبية وجميع الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية تحت مسمى "منتدى التعاون الصيني العربي"، الذي شكل نواة لشراكة استراتيجية للتعاون الشامل والتنمية المشتركة والتوجه نحو مستقبل أفضل، ومنعطفًا مهمًا في الدفع بمستوى العلاقات العربية الصينية.

 

عقدان من التنمية أسسها منتدى التعاون الصيني العربي

تأسس منتدى التعاون الصيني العربي في يناير عام 2004 خلال الزيارة التي كان يقوم بها الرئيس الصيني السابق "هو جينتاو" إلى القاهرة.  وهو يمثل منصة للتشاور والتنسيق وصياغة السياسات بين جمهورية الصين الشعبية  والدول العربية، لمواصلة الدعم المتبادل بينهما وتعزيز مصالحهما الإستراتيجية، والمساهمة معاً في بلوغ السلام والتنمية المستدامة لكافة دول العالم.

وتنص اللائحة التنظيمية للمنتدى، على أن تنعقد أعماله العادية على مستوى وزراء الخارجية في الدول الأعضاء ومشاركة أمين عام الجامعة العربية مرة كل عامين في الصين أو في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة أو في إحدى الدول العربية بالتناوب، لبحث سبل تعزيز التعاون بين الصين والدول العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتبادل الآراء حول القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وكذلك القضايا ذات الأهمية المطروحة في اجتماعات الأمم المتحدة ومنظماتها، كما يناقش المنتد القضايا الأخرى التي تهم الجانبين الصيني والعربي في مختلف المجالات.

وفي إطار مساهمتها الفاعلة ومبادراتها التنموية البناءة، استضافت مملكة البحرين أعمال الدورة الثالثة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي في مايو عام 2000 وجرى خلال الاجتماع التوقيع على "البرنامج التنفيذي بشأن التعاون في مجال حماية البيئة بين جمهورية الصين الشعبية وجامعة الدول العربية" و"مذكرة تفاهم بين المجلس الصيني لتنمية التجارة الدولية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية بشأن إنشاء آلية ندوة الاستثمارات".

كما استضافت البحرين في 7 مايو 2010 الندوة الثانية للتعاون الصيني العربي في مجال الإعلام والتي شارك فيها كبار المسؤولين من الإعلام الحكومي العربي والصحفيين من الصين والدول العربية، وتمخضت عن اصدار بيان مشترك يؤكد أهمية تعزيز التعاون الإعلامي الصيني العربي لتطوير العلاقة الصينية العربية.

وتأتي مشاركة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، رئيس الدورة الحالية للقمة العربية،حفظه الله ورعاه،  في الجلسة الافتتاحية لمنتدى التعاون الصيني العربي 2024، بناء على دعوة من فخامة الرئيس الصيني شي جينبينغ متزامنة مع الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس المنتدى، وانعقاد الدورة العاشرة لأعمال المنتدى على المستوى الوزاري المقرر أن تستضيفها العاصمة الصينية بكين في 30 من مايو الجاري.

كما سيقوم صاحب الجلالة الملك المعظم بزيارة دولة للصين يجري خلالها مباحثات مع فخامة الرئيس الصيني تتصل بعلاقات التعاون المشترك بين البلدين الصديقين والتطورات الإقليمية والدولية الراهنة، ونتائج القمة العربية الثالثة والثلاثين التي استضافتها مملكة البحرين في 16 مايو الحالي.

وفي العقدين الماضيين، قدم هذا المنتدى مساهمات مهمة في تطوير العلاقات الصينية العربية ازدادت وتنوعت آلياتها لتشمل الاجتماعات الوزارية الرفيعة، واجتماعات كبار المسؤولين، وندوات الحوار الحضاري ومنتديات الإصلاح والتنمية، وملتقيات التعاون الإعلامي، ومؤتمرات رجال الأعمال الصينيين والعرب، إلى جانب العديد من اللقاءات الأخرى في مجالات الطاقة، والمناخ، والثقافة، والتكنولوجيا.

وعلى مدار 20 عامًا منذ تأسيسه وحتى اليوم، حققت العلاقات الصينية العربية تحت مظلة منتدى التعاون الصيني العربي تطوراً واسعاً على كافة المستويات، حيث تطورت العلاقات من "علاقات شراكة" قائمة على المساواة والتعاون الشامل، إلى "علاقات التعاون الاستراتيجي" القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة، والتي أقرتها الدورة الرابعة للمنتدى عام 2010، وصولاً إلى "علاقات الشراكة الاستراتيجية" حيث تم الاتفاق في الدورة الثامنة للمنتدى عام 2018، على الارتقاء بالعلاقات بين الجانبين إلى علاقات الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية، القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل.

مسارات تنموية عملاقة بين الاقتصاد والحزام والطريق 

ترتبط الدول العربية مع جمهورية الصين الشعبية بعلاقات اقتصادية وتجارية واستثمارية ضخمة، جعلت الصين أكبر شريك تجاري للدول العربية لسنوات عديدة متتالية.  وخلال 20 عاماً منذ تأسيس منتدى التعاون الصيني العربي، ارتفع حجم التبادل التجاري بين جمهورية الصين الشعبية والدول العربية من 36.7 مليار دولار أميركي في عام 2004 إلى 398.1 مليار دولار أميركي في عام 2023، أي بزيادة 10 أضعاف، كما شكلت واردات الصين من النفط الخام من الدول العربية نصف مجموع وارداتها من دول العالم.

وترتكز الشراكة العربية الصينية في الجانب الاقتصادي والتنموي منها على تنفيذ مشاريع متعددة في مجالات النفط والغاز، والطاقة الجديدة، ومشاريع التحول الطاقي النظيف والمستدام. وفي هذ الخصوص شهدت الدورة السادسة التي عقدت في بكين عام 2014 على المستوى الوزاري بحضور الرئيس الصيني شي جينبينغ، أول طرح لتطبيق معادلة التعاون "3+2+1" المتمثلة في اتخاذ مجال الطاقة كمحور رئيسي، ومجالي البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار كجناحين، وثلاثة مجالات ذات تقنية متقدمة تشمل الطاقة النووية والفضاء- والأقمار الاصطناعية -والطاقة الجديدة.

وفي عام 2016، طرح الرئيس الصيني شي جينبينغ من مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، خطة الأعمال الأربعة بشأن تشارك جمهورية الصين الشعبية والدول العربية في بناء مبادرة "الحزام والطريق" تلك المبادرة الاقتصادية العملاقة التي ستعيد التفاعل بين الحضارتين الصينية والعربية بشكل يدعم الاقتصاد والتنمية، ويكرس المفهوم الواسع للتعايش وحوار الحضارات.  وتعد جامعة الدول العربية أول منظمة إقليمية في العالم توقع مع جمهورية الصين الشعبية على وثيقة التعاون بشأن بناء وتأسيس مشروع "الحزام والطريق" والبيان المشترك بشأن تطبيق مبادرة الحضارة العالمية، وهو ما يعكس الدعم العربي الكبير لهذا المشروع التنموي الذي يشكل جانباً مهماً من جوانب الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية.

وشهد عام 2022، انعقاد القمة الصينية العربية الأولى في العاصمة السعودية الرياض بنجاح، بحضور الرئيس شي جينبينغ وقادة الدول العربية، حيث اتفقوا بالإجماع على العمل على تكثيف الجهود من أجل بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد. وتبنت القمة ثلاث وثائق ختامية وهي:  "إعلان الرياض- القمة الصينية العربية الأولى"، و"الخطوط العريضة لخطة التعاون الشامل بين الصين والدول العربية"، و"وثيقة تعميق الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية من أجل السلام والتنمية".

وتكتسب الدورة العاشرة من منتدى التعاون الصيني العربي على المستوى الوزاري الذي تنطلق أعماله في العاصمة الصينية بكين يوم الخميس 30 مايو 2024م، أهمية كبيرة نظراً لأهمية الملفات المشتركة المطروحة أمام الجانبين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمعاناة الإنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ودعم جهود إحلال السلام العادل والشامل في منطقة الشرق الأوسط، وحماية الأمن والاستقرار الاقليمي.