+A
A-

للقراءة: "زوربا البرازيلي" لجورجي أمادو


بيدرو أرشانجو بطل الرواية الذي يخرج عن كونه قارئاً ليصبح باحثاً ومؤلفاً وتندرج كتبه كأهمّ مراشجع في مكافحة العنصرية التي تقمع الأفرو-برازيلية وشعبها الملّون بعد إلغاء العبودية. يجسد في الحقيقة شخصية الباحث الأنثروبيولوجي مانويل كويرينو الذي تتبع سلالة  الملونين في السلفادور، حين عانت في إحدى الفترات من التمييز العنصري من أولئك الذين يختزلون التاريخ لهم وحدَهم ودافع عن تمازج الأجيال وقدَّم كتابه الأهم وهو (مطبخ باهيا) الذي يحكي عن كثير من المأكولات التي تشتهر فيها رابع أكبر ولاية برازيلية والتي تقع على المحيط الأطلسي وعلاقتها الثقافية والاجتماعية بالسود.
إن بطل الرواية هذا ليس كما اعتدنا أن يكونوا أبطال الروايات، فهو شخصية جدلية ممتلئة بالتناقض الإنساني يعيش في عالمين، عالم غرائزي محبّ للخمور والنساء ولا يمكن أن تضع عليه اللوم إذا أحبته النساء، لا يمكن أن تلوم الصخرة إذا تكسّرت عليها الأمواج. وهو رجل يتناغم مع فلكلور مدينته باهيا التي يحيي سكانها الكرنفالات وقرع الطبول و الكابويرا (أحد فنون القتال). أمّا عالمه الآخر فهو يبحث فيه عن أصول بني جلدته من الملونين الذين قدموا من أفريقيا واختلطوا مع النخبة البيضاء، فيخوض من خلال أبحاثه المعرفية صراعاً مع الثقافة السائدة التي يشنها البروفيسور الأكاديمي نيلو آرغولو على المختلطين في مدينة باهيا، والذي كان يدعو للفصل بين البيض والسود.
أراد خورخي أمادو أن يقول إن المعرفة هي أهم وسيلة للتغيير والنهوض نحو حياة أفضل
ورغم عدم توازن قوى هذا الصراع الثقافي فإن أبحاث بيدرو أرشانجو تصبح أحد أسباب إنهاء الحرب العنصرية في مطلع القرن العشرين الذي فقد فيها صديقه الأقرب إليه ورفيق خيمة المعجزات ليديو كورو برصاص الشرطة العنصرية.
بهذا أراد خورخي أمادو أن يقول: إن المعرفة هي أهم وسيلة للتغيير والنهوض نحو حياة أفضل، المعرفة وليست المعركة  وحدها من تنتج سلالات بشرية نقية غير محقونة بمصول الكراهية وإلغاء الآخر التي تصل إلى محاولة نزع شعوب بكاملها من جذورها وتاريخها، أراد أن يقول إن هذه الأرض التي نعيش عليها تتسع للجميع وليست ملكية لأحد.
ليديو كورو الرسام والمناضل ضد التمييز العنصري، وهو شخصية صاحب خيمة المعجزات في الرواية والتي كانت المكان المفضل لبيدرو أرشانجو ليتعاطى مع ثقافة شعب واسع الشغف للحياة ويدافع عنهم من بوليس العنصرية، هذه الخيمة  لم تكن تصنع المعجزات بهذا المعنى، ليديو كورو كان يرسم المعجزات للآخرين ويحدد مصائرهم بريشته، إنها نوع المعجزات التي نبحث عنها في أعماقنا، إنها معجزة الحياة التي وهبها الإله للإنسان، إنها معجزة الحب حين يتخطى حدود العرق واللون ويكسر التمايز والنمطية بين البشر،  إنها معجزة القوة التي تجعل الآخرين لا يستسلمون أمام الكراهية والطبقية، وحدث هذا كله في خيمة المعجزات المكان الفقير الذي استقطب حتى أولئك الذين مزقوا ميراثهم وانصهروا مع فئة الناس البسطاء.
 بهذا جمع أمادو بين الحقيقي والخيالي في روايته  كنوع من التحيز للقارئ الذي يريد منه إقامة علاقة وطيدة مع أحداث الرواية، الخيال وحده يحدد جمالية النص الأدبي حين يقدم نفسه على أنه مكان لإعادة صياغة العالم، إضافة إلى اللغة النثرية الجميلة التي استخدمها على لسان أبطال روايته والتي اعتادَ أمادو استخدامها في أعماله الأدبية ما يضفي عليها نكهتها الأدبية الخاصة.
خيمة المعجزات مكان يحسد عليه، فتجد فيها ناساً فيهم من الحياة والبهجة رغم بدائيّتهم الاجتماعية أكثر من غيرهم، يحيط بهم خصوم شرسون خلقتهم المنظومات السياسية  التي ميّزت العرق وجعلت من الملونين دونيين عن غيرهم البيض، إنها مكان اجتماع يتردد عليه الفنانون والحرفيون ومعتنقو الدين والرقص الأفريقيون وجميع السود والمولاتو وحتى البيض الذين تنبذهم النخب الحاكمة ويشتركون جميعاً في الرغبة بالاعتراف بأكثر مكامن الجمال في هذا العالم.. الحب.