العدد 5734
الأربعاء 26 يونيو 2024
روسيا وحديث بديل الغرب الحضاري
الأربعاء 26 يونيو 2024

ضمن القضايا التي تتقاطع فيها أحاديث علم السياسة وعلوم الاجتماع، يأتي الحديث عن غروب شمس الحضارة الغربية، والذي تناوله الكثير من المؤرخين، وفي مقدمهم، نيل فيرغسون، البريطاني الأصل الأميركي الجنسية، وقد سبقه المؤرخ الأميركي، بول كيندي، صاحب المؤلف العمدة “نشوء وسقوط القوى العظمى”، ولأن الطبيعة تمقت الفراغ، لذا يتساءل أصحاب العقول المفكرة، عمن سيملأ فراغ هذه الحضارة، حال اضمحلالها؟
دعونا نتفق بداية أن الأرض جبلت على الثنائية، خير وشر، ليل ونهار، نور وظلام، وكذا الامبراطوريات والحضارات، لا أحد منها يبقى مرة وإلى الأبد، وقد قال المؤرخ البريطاني الكبير “أرنولد توينبي” ذات مرة: “إن الحضارات تموت انتحارا لا قتلا”، ما يعني أن كل حضارة تحمل في طياتها عوامل شقائها، ومن ثم فنائها”. غير أنه من الموضوعية القول، إن اندحار الحضارة الغربية أمر ليس يسيرا، إذ لا تزال لديها من المقومات ما يمد في عمرها، وقد قال أحدهم ذات مرة إنها وإن كانت لا تملك حجر الفلاسفة، إلا أنها تمتلك أمرين غاية في الفعالية: الرجال والمرجعيات، بمعنى العقول المفكرة، والحواضن القادرة على استيلاد رؤى تضمن البقاء، حتى وإن لاح الأجل المحتوم في المدى الزمني البعيد. مؤخرا بدأت التساؤلات: “هل يمكن لروسيا السلافية، بتاريخها القيصري، بفلاسفتها وأدبائها، مفكريها ومثقفيها، بما لها من تراث آبائي روحي أرثوذكسي ضاربة جذوره في الزمان عبر ألف عام، أن تقدم بديلا لما نراه من ملامح الاهتراء الغربي أدبيا وروحيا؟ هذا التساؤل طرح مؤخرا وبقوة في ضوء أمرين: أولا: نتائج انتخابات الاتحاد الأوروبي التي أفرزت حصيلة يمينية، مغرقة في تشددها الشوفيني، والذي يصل إلى حد التطرف، ومعه تبدأ المخاوف الجدية، من أن تضحى أوروبا ذات نهار قومية الهوية والهوى، الأمر الذي يكتب شهادة وفاة لأزمنة النهضة والتنوير، ولصعود رؤى وأفكار فلاسفة الإخاء والمساواة، العدالة والحرية.
ثانيا: ملامح الرعب التي باتت محلقة فوق سماوات القارة العجوز، حاملة معها إرهاصات حرب عالمية. 
جراء الاندفاع وراء الولايات المتحدة التي نجحت في وضع العصا بين الدواليب الأوراسية، وفرقت بين الأوربيين والآسيويين. 
يبدو اليمين واليسار الأوروبي في حالة اضطراب شديد في هذه الآونة، الأمر الذي يزيد الغموض المستقبلي للقارة التي رأى مسؤول سياساتها الخارجية، السيد جوزيب بوريل، قبل نحو عام أنها حديقة غناء، وأن هناك من يحاول أن يقفز من فوق أسوارها للدخول إلى عمقها.
قبل ايام قليلة تحدثت رئيسة مجلس الاتحاد الروسي “فالنتينا ماتفينكو” عن روسيا الدولة القادرة على تقديم بديل حضاري إنسانوي، عوضا عن المسار المسدود الذي يسير عليه الغرب، وكتبت في مناسبة “يوم روسيا”: “إنه عندما يقف العالم على مفترق طرق فإن بلادها واحدة من الدول القليلة التي تمثل بديلا للمسار المسدود الذي يتبعه الغرب”.
يبدو العالم من وجهة نظر “ماتفينكو” على مفترق طرق، لاسيما أن ما يحدث في الحياة الثقافية والروحية للغرب لا يدع مجالا للشك في أنه ينساق بعيدا عن مفهوم تحرير الإنسان، وعما صنعه ويجعل منه إنسانا على وجه التحديد، أي إنسانا وكائنا يفكر، لديه شعور وأخلاق وليس فقط كائنا استهلاكيا.
هل حقا باتت المجتمعات الأوروبية، وكما تراها الآيديولوجية الروسية الناشئة، تمر تاريخيا بمرحلة “ما بعد المسيحية”، و”سيادة الدولة” وما بعد “القيم الأخلاقية”؟
المؤكد أن صحوة روسيا بقيادة فلاديمير بوتين لا تتوقف عند حدود الصناعات العسكرية التي تحدث توازنات القوة، إذ تنشط جميع الأجهزة الحكومية الموالية لبوتين في قطاعي الإعلام والسياسة، لبث الروح الوطنية وتعظيم قيمة التقاليد الروسية، كما تدعو للتمسك بالقيم الأخلاقية والتخلص من جميع السلبيات التي جلبها الشعور بالهزيمة في الحرب الباردة التي نشبت بين روسيا والغرب.
تبدو روسيا اليوم مدافعة عن وجودها، وما حرب أوكرانيا، سوى آلية للدفاع عن الذات، في مواجهة زحف الناتو شرقا.
هل يمكن لما أسماه الكاتب الروسي الشهير “تيودور دستوفيسكي” “فطرة الإنسانية المتأصلة في روح الشعب الروسي”، أن تؤسس لحضارة إنسانية بديلة عن الحضارة الغربية؟.


كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية