العدد 5735
الخميس 27 يونيو 2024
كمال الذيب
كمال الذيب
مساءلة الهزيمة (4).. ترييف المدن بدلاً من تمدين الريف!
الخميس 27 يونيو 2024

قال الصديق: لم أفهم قصدك من عبارة قاسية استشهدت بها، ووردت في كتاب مساءلة الهزيمة للدكتور الأنصاري وقد بدت لي هجائية: “فشل المدينة العربية أدى إلى سيطرة ثقافة الريف والحصار الأصولي للمجتمع والفكر معا”؟
قلت للصديق: ليس في الأمر أي هجاء للريف، ففي سياق توصيف العوامل المفضية إلى هزيمة، يأتي هذا الاجتماعي الحاسم. وهو ما تسميه العديد من الدراسات الاجتماعية بـ (ترييف المدن) بدلا من تمدين الريف، والناجم عن الانفجار السكاني الذي أفضى إلى عمليات نزوح ضخمة نحو المدن العربية التي تعاني أصلا من هشاشة وارتباك وأزمات كبيرة لأنها لم تكن مهيأة لاستقبال مئات الآلاف بل والملايين من النازحين من الريف العربي، لا على مستوى الإسكان ولا على مستوى الخدمات.. وهو خلل فاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولذلك وعندما نكون في سياق مساءلة الهزيمة، لا يمكننا أن نتجاهل هذا الجانب الاجتماعي الخطير والناجم عن التأثير المتزايد “للمد السكاني الريفي الأصولي” على حد تعبير الأنصاري، لأن هؤلاء القادمين من الريف العربي عجزت المدن عن تمدينهم، وظلوا ريفيين في طرق تفكيرهم، وسلوكهم الاجتماعي والسياسي، وبدلا من أن يتمدنوا، أسهموا في ترييف المدن التي غزوها ونقلوا إليها أفكارهم وعاداتهم. وهذه القوة الاجتماعية الفقيرة وشبه الأمية في الغالب والمضطهدة والمهملة على نطاق واسع، تسلّحت بآيديولوجيتها الدينية الأصولية الشعبوية، في مواجهة المدينة بحداثتها الفاشلة، بعد خيبتها في “وعود التحديث الليبرالي اليساري والقومي والتقدمي”. ومن هنا جاء الحديث عن التأثير السلبي للقاعدة الاجتماعية الريفية التي غزت المدنية العربية وأسهمت في تراجع جهود التحديث وانتشار الأفكار الأصولية وفكر المليشيات المسلحة، في مواجهة إخفاق المشروع التحديثي، خصوصا مع “تفاقم التحدي الغربي، مصحوباً بالتحدي الإسرائيلي”.
هذا هو المقصود يا صديقي، وليست هناك أية نية للهجاء، كما قد يتبادر إلى الذهن. وهو وجه من وجوه المأزق العربي الذي أدى إلى الهزيمة العسكرية وإلى سائر الهزائم الأخرى. فطالما ظلت أحزمة البؤس التي تحيط بالمدن قائمة ومؤثرة، فلن تكون هناك أية فرصة حقيقية لمغادرة الهزيمة.
*كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .