العدد 5736
الجمعة 28 يونيو 2024
banner
شعراء السبعينات بين زمامين (2)
الجمعة 28 يونيو 2024

بعد أربعة عقود سادها الصمت الرهيب، رحل “البعض”، واستعد “البعض الآخر” للرحيل، بعد المقال المتحول، والنثر المتأقصد، والشعر المنثور، لم تعد لدينا روح للمناكفات والمهاترات، ولا إعادة اختراع العجلة من جديد، فما حدث قد حدث، وما كان لابد أن يترك على سكتته الدماغية من دون إشعال فتيل، أو تقليب مواجع، أو إفشاء أسرار، ما كان قد كان، ومن تحلى بالصبر لعقود سيتحلى بأخطر منه في عصر “عبدالموجود”.

البعض يلومني لأنني لم أدافع بشراسة عن جيل السبعينات الشعري، لأنني لم أرد غيبة من رحلوا، ولم أنتصر لبقية المعاصرين، لأنني كنت رؤوفًا بمن ذُبِحوا، وحصيفًا مع من يطالبون بالقصاص، وعفيفًا أو هكذا يُخَيَّل لي تجاه من تجاوز حد التجاوز واعتدى، ومع من تسامح بحق الآخرين وهو لا يمتلك هذا الحق.

هاتفني من هاتفني، واحتج من احتج، وطالبني بمواصلة الحملة ضد من أزهقوا أرواحنا ونحن على قيد الحياة بالثأر ولو بعد حين، وبالانتظار رغم أن حيثيات الحكم مازالت بين يدي القضاة. كتبت ردًا على الناقد الكبير البروفيسور أحمد فرحات، توضيحًا لا تلميحًا، تصريحًا لا تجريحًا، فالظاهرة مؤلمة والضحايا أمام ظل مكتبي بالعشرات، يطالبون برد الحقوق لأصحابها، وصون الحق “لمن استطاع إليه سبيلاً”، وكان هذا الرد: شكرًا لك صديقي العزيز الناقد والأديب والمفكر، لعل في البحث والتقصي ما يجعلنا نفسر لزوم ما كان يلزم منذ نصف قرن، لا أن نمشي كالقطيع خلف الثابت والمتحول، خلف شعارات التثوير البراقة، مشينا وكأننا نتعلم المشي، ومضينا مغمضي العينين وكأننا لم نكن نرى، ربما لأن أدونيس كان الأجرأ في الطرح، والأعمق في المجاز، وربما لأن شعره ونثره كانا موحيين للحد الذي دفع جيلنا الفاقد للرعاية والدعم، بأن ينصبوا أدونيس إمامًا عليهم.

وعلى طريقة نزار عندما قال: افرحوا أيها الرعية، لقد وليت اليوم حاكمًا عليكم، فاتبعوني، وأعدموا كل أولياء أموركم، واجعلوا مني ترياقًا لكم، وبعلاً لنسائكم، ورضوانًا لخطاياكم ووصاياكم وأضغاث أحلامكم، لم يكن في واقعنا من ينظر لمواقفنا السياسية، لأوضاعنا الحياتية، لحياتنا الأدبية، وعندما خرج الرجل من كهف مهيار الدمشقي و”قصائده الأولى” “بالثابت والمتحول”، بعد مقدمة طويلة في الشعر العربي الحديث، كسرنا القوقعة، وخرجنا إلى الوجود، أقمنا الأفراح، وأطلقنا الرصاص في الهواء إيذانًا واحتفالاً بمولد مُنظر جديد، لم يعترضنا أحد، ولم يبلغ ضدنا عميل، وكانت أجهزة البحث الجنائي مشغولة في النيل من الشيوعيين، والقبض على المشاكسين والمتظاهرين بعد أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٨.

تحركنا بحرية أكثر في معية ما تيسر من “إضاءة ٧٧”، واجتمعنا في خوالي أيامنا ببيتي وبيت الشاعر الراحل دكتور محمود نسيم، وانضم إلينا أو انضممنا إليهم ورافقناهم بحب واقتناع، مجموعتي “إضاءة” و”أصوات”، رفعت وحلمي وجمال القصاص وحسن طلب وعبدالمنعم رمضان عبيد والصيدلي الشاعر محمد سليمان، وعلى الهوامش المؤثرة والفاعلة محمد خلاف ووليد منير ومحمد الشحات وأسامة الخولي، وأحمد عنتر مصطفى، وبطبيعة الحال الرجل الذي كان يقرأ ويكتب ويجمعنا إما في بيته أو بيوتنا جميعًا، المؤرخ والشاعر الذي لا يتكرر في العمر مرتين شعبان يوسف.

عكفنا جميعًا لدراسة ظاهرة أدونيس الفكرية والشعرية، سهرنا الليالي، امتلأت ساحتنا المتاحة بالندوات والإرهاصات، قصر ثقافة الريحاني حيث التقينا بالشاعر والأديب الدكتور الراحل أحمد الحوتي، والروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد، ويوسف ابورية، وشاعر العامية الموهوب ماجد يوسف، تمامًا مثلما كان يجمعنا حزب التجمع، خصوصا في فرعه الذي حمل بعد ذلك اسم: ورشة الزيتون، أطال الله في عمرها وعمر رمزها الروحي شعبان، إلى جانب اللقاءات في قصر ثقافة قصر النيل والمركز الثقافي الأسباني مع الزميل والشاعر طلعت شاهين.

جميعنا، جميعنا كنا نلتقي لنناقش الظواهر الأدبية والشعرية والفكرية وحتى السياسية، وكنا نعرض أشعارنا على بعضنا البعض، ويشهد علي الله أنه في إحدى الندوات التي كانت على “قد” إمكانياتنا، بالتحديد ليلة رأس السنة، وفي منزل شعبان يوسف بعين شمس تجمعنا أنا وشعبان ومحمود نسيم وحلمي سالم، ومحمود الطويل وأسامة الخولي وجمال القصاص، وكنت قد انتهيت من كتابة أربع قصائد جديدة، لضيق الوقت عنونتها بالأولى والثانية والثالثة، والرابعة، وأذكر أن الجميع سهر معي عليها تشريحًا وتقييمًا وانتقادًا بالذات من حلمي سالم ومحمود نسيم وشعبان والقصاص، رغم ذلك كان أدونيس قد تربع في قلوبنا، ولدرجة أن الزملاء كانوا يضعون تنظيراته على مناضد البحث وهم يستمعون إلى قصائدي وإذا ما كانت متوافقة مع ما قاله أدونيس أم لا. يتبع.

 

*كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .