منذ أعوام عدة، احتفلت اليابان بالذكرى السنوية لمرور 70 عاما على تأسيس الدستور الياباني وإصداره. ولما كان الدستور مكونا جوهريا وعاملا أساسيا في إثراء حياة الشعوب ومستقبلها، فلقد حرصت الدول منذ القدم على تخليده والاحتفال به.
لكن ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع هو ما وجدته من تفرد واختلاف في هذا الدستور عن غيره من دساتير العالم.
وحين تُذكر اليابان في مجلس أو محفل ما، تجد كثيرا منا يتحدث عنها، فهناك من يتحدث معجبا أحيانا وناقدا أحيانا، عن مدى إفناء الشخصية اليابانية لذاتها في العمل، بصورة تفوق حد المعايير المتعارف عليها في كثير من الثقافات والمجتمعات الأخرى في دول العالم المختلفة.
والسؤال هنا، هل لهذا النمط السلوكي في العمل جذور أو أبعاد متأصلة تربطها بالدستور الياباني، أم إن الأمر لا يتعدى اختلافا لبعد سيكولوجي لثقافة مباينة لغيرها من ثقافات العالم المتعددة؟ وما هو الشيء الفريد الذي يميز هذا الدستور عن غيره من دساتير العالم؟
كثيرا ما نجد الحديث يدور حول حقوق الشعب والمواطن حين نتحدث عن الدستور، لكن نادرا ما نجد من يتحدث عن واجبات المواطن التي يحددها الدستور. وهنا نجد الدستور الياباني قد حدد الواجبات التي تقع على عاتق المواطن في 3 نقاط على النحو الآتي:
- الأولى: التعليم، وهو أن يتحمل المواطن مسؤولية تعليم (التعليم الإلزامي) الأبناء المكفول بواسطة الدستور، أي أن يقوم الفرد بتعليم أبنائه والعمل على إتمام مرحلة التعليم الإلزامي.
- الثانية: أن يقوم بتسديد جميع المستحقات الضربية للدولة، علما أنه في حال عدم قيام المواطن بالحفاظ على احترام هذه الواجبات وأدائها، يصبح معرضا للمسألة أو للعقاب (بغرامة مالية أو غيرها من الإجراءات العقابية).
- الثالثة: وهي بيت القصيد، وتتمثل بالعمل والاجتهاد (kinro)، وهو أحد الواجبات الثلاثة المقررة بالدستور، الذي يصبح بموجبه فرضا على كل مواطن دون استثناء. أي أنه حتى لو أنك على جانب من اليسر والسعة ولا تحتاج إلى أن تعمل وتكدح من أجل العيش، فبموجب هذه المادة بالدستور يصبح العمل والاجتهاد واجبا عليك من أجل الإنتاج وانتفاع المجتمع بك.
لست متخصصا في علوم القانون أو الدستور، ولكن قلما وجدنا في دساتير العالم مثيلا لهذه المادة التي تضع العمل بوصه واجبا قوميا وفرضا إلزاميا على الإنسان، حتى وإن كان غنيا ليس بحاجة للدخل المادي، ولكن يبدو أن العمل بالنسبة للعقلية اليابانية لا يمثل فقط وسيلة لكسب العيش والحصول على لأموال وتسديد الضرائب، ولكن يتعدى ذلك ليرسخ لقيمة العمل والإنتاج في المجتمع.
ومن حسن الحظ أن هذه المادة تختلف عن مثيلاتها من المواد الأخرى بالدستور، في أنها لا تفرض على تاركها أو من لا يؤديها.
وللحديث بقية...
* أستاذ الدراسات اليابانية والترجمة بجامعة طوكاي اليابانية