للصمت معان ووظائف عديدة ...قد تختلف من بيئة لأخرى ومن ثقافة لغيرها، وذلك في أبعادها وميزانها الثقافي واللغوي المحدد لها. فهنا وحسب المعادلة الثقافية اليابانية يصبح “الصمت” فضيلة جميلة ذات تقدير مجتمعي كبير، لاسيما حين تتعرض للزجر أو للنقد أو الاتهام من الآخرين نتيجة فعل أو تصرف ما، قد تكون فعلته بشكل غير مقصود أو عن طريق الخطأ !...هنا ووفق ميزان حكمة “الصمت” اليابانية يصبح تركُ الحق في تبرير هذا الفعل الخاطئ ـ بغير قصد ـ وتركُ الدفاع عن مصداقيته وصحته شيئًا في مقام الفضيلة الأخلاقية الجميلة لدى العقلية اليابانية. فالصمت هنا وفق معايير العقلية اليابانية آية في النبل وثمرة العقل. ويكون “الصمت” أيضًا مطلبًا اجتماعيًّا في حال التباهي بعمل أو فعل حسن يتطلب مهارة ممتازة وكفاءة خاصة، إذ يُصبح هنا “العدول عن الكلام والتزام الصمت” سلوكًا واجبًا وحاضرًا وفق المعيار الأخلاقي للعقلية اليابانية.
ولا شك أننا سوف نجد أنفسنا في حيرة وصعوبة في تفهم هذا المنطق الياباني في التعامل مع الأمور على هذا النحو، فهو يتعارض ويختلف كثيرًا عن العقلية الغربية التي ترتكز على فكرٍ وفلسفةٍ تجعل الإنسان أحق الناس بصنع طريقته بنفسه من أجل تحقيق ذاته التي تعطيه الحق في الدفاع عن نفسه وفكره، وحمايتها بوصف هذا الدفاع وتلك الحماية عاملًا محوريًّا من أجل رفع شأنه وذاته، حتى لو كان ذاك على حساب الآخرين في بعض الأحيان، وذلك من باب “وإن لزم الأمر”.
ومثل هذا النوع من فكر العقلية الغربية في إيثار النفس على الآخر تجده متشابهًا مع واقع مجتمعاتنا العربية وسلوكياتها المعاصرة. لكننا في الوقت ذاته سوف نجد لتلك الشخصية العربية تقاطعًا فكريًّا لها مع معادلة “الصمت اليابانية” وميزانها الثقافي. فسوف نجد كثيرًا من المقولات والحكم العربية المأثورة التي تعزّز حكمة الصمت وترفع من شأنها بوصفه خلقًا حميدًا. فمن أشهر الأقوال المعروفة بمجتمعاتنا عن حكمة الصمت مقولة “السكوت من ذهب“. وبالطبع فإن هذه المقارنة بين الكلام والسكوت جعلت للسكوت ميزةً وثمنًا أغلى. وهنا يجدر بي أن أستشهد بالمقولة الشهيرة للعالم الجليل شمس الدين التبريزي التي يقول فيها: “الصَمتُ أيضًا لَهُ صَوت، لكنَّهُ بِحاجة إلى روح تَفهَمُه”.