يقول العالم الجليل شمس الدين التبريزي “الصمت أيضا له صوت، لكنه بحاجة إلى روح تفهمه”.
وهنا نجد الروح التي تفهمه بجدارة.. فروح العقلية اليابانية تجد في حكمة “الصمت“ والعدول عن الكلام ملاذا آمنا لجعل الذات تنأى بنفسها عن التباهي بقدراتها ومهارتها أو ما حققته من نجاحات أو إنجازات.. فالميزان الأخلاقي الياباني يعتبر قلة الكلام والصمت أداة ذات فائدة عظيمة للإنسان، إذ تعطيه قدرة أفضل على التناغم والتوافق مع من حوله من أفراد المجتمع، وذلك طبقا لمفهوم الـ “wa”ـ الذي يعد عصب المنظومة الأخلاقية للتواصل البشري بالمجتمع الياباني، والــذي يرتكز في منهجه على مبــدأ مهــم، وهــو التــزام الفــرد في المجتمــع بالعمـل دائمـا عـلى تفـادي إحـداث أي شـكل مـن أشـكال الإزعـاج للآخريـن، ســواء أكان ذلــك بالقــول أو الفعــل، حتـى وإن كان الطــرف الآخــر أقــرب المقربـين منـه كالأخ أو الـزوج والزوجـة أو الوالـد والوالـدة؛ وذلـك مـن أجـل تحقيـق مفهـوم فلسـفي مهـم يعـرف في اليابـان بمفهـوم الــ “wa” ومعنـاه التناغــم والتجانــس والتوافــق والوئــام والانســجام بــين أفــراد الجماعــة الواحـدة، ويمكـن أن نلخصـه في كلمـة واحـدة وهـي “الوفـاق الاجتماعـي”.
ومفهـوم الــ “wa” أي التناغـم والتجانـس والتوافـق والانسـجام بـين الأفـراد، هــو القاعــدة الفلســفية الرئيســة التــي يرتكــز عليهــا ميــزان العلاقــات الإنسـانية في المجتمـع اليابـاني، وهـذه الفلسـفة تـضرب بجذورهـا في أعماق تاريـخ اليابـان الـذي يمتـد لأكـثر مـن 1300 عـام، ولا تقتـصر عـلى العـصر الراهــن فحســب. وهــو أيضــا المفهــوم الــذي يتصــدر المــادة الأولى لأقــدم دسـاتيرها الـذي وضـع في القـرن السـابع الميـلادي عـلى يـد زعيمهـا المعـروف shotokutaishi، فقـد خلـد التاريـخ مقولتـه المعروفـة، التي يقول فيها “إن التوافـق الاجتماعي هـو أغـلى القيم بـين النـاس”.
ولا يستطيع الفرد تطويع صمته إلا إذا امتلك إرادة قوية تمكنه من التحكم فيه والسيطرة عليه، فإظهار الشخص لمهاراته والتباهي بإنجازاته يتعارض مع أهم مبادئ العقلية اليابانية، وهي إنكار الذات وإيثار الآخر والتحمل والصبر من أجل إيجاد الطريق لتحقيق الذات.
وفي اليابان والكثير من البلدان الآسيوية والاسكندنافية أيضا، تجد التواصل البشري بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة قائما على ثقافة الاستماع للآخر أكثر من ثقافة الحديث والتعبير عن الأفكار والآراء الشخصية للمتحدث، فهي تعتبر الصمت رمز “التفكير بعناية”، كما يستخدم الصمت أحيانا لتهدئة المكان عن طريق الفراغات الصامتة (لحظات الصمت المؤقت) التي تتخلخل المحادثات بين الأفراد، وأحيانا للحفاظ على وقار المشاركين بالحديث.
بالإضافة إلى ذلك، فهناك حالات يكون فيها “ما لا يجرؤ أحد على قوله” له معنى مهم دون ضرورة للإفصاح عنه. وهناك أيضا حالات لا يجرؤ فيها الأشخاص الذين لديهم آراء تختلف عن إجماع المجموعة على المجادلة والنقاش، وذلك حفاظا على آداب السلوك المتبعة بين أفراد المجتمع.