ليس بغريب على من تعامل أو خالط اليابانيين ملاحظة قلة كلامهم وميلهم إلى الصمت دون التعبير عن مشاعرهم أو ردود أفعالهم تجاه من حولهم، وذلك مقارنة بالشخصية الغربية المعروفة بالنسبة لنا.
فكثيرٌ ممن أتيحت لهم فرصة الحديث أو إلقاء كلمة أمام اليابانيين كانوا يشعرون بالحيرة تجاه رد فعلهم شبه الصامت... الذي يجعل من حولهم يتساءلون عن مدى استيعابهم أو تقبلهم للحديث ومضمونه، مما قد يسبب أحيانًا سوء فهم تجاه رد فعلهم الصامت… في الظاهر … المُعبر في الواقع!
وعلى هذا النحو، سوف تجد اختلافًا بيّنًا بين عموم الأجانب واليابانيين في كيفية تفسير “الصمت” والتعامل معه، مما يجعل الأجانب في اليابان يميلون إلى اعتبار “الصمت أو عدم رد الفعل “ يعني بالنسبة لهم أن ”ثمة مشكلة على وشك الحدوث”.
لذا، نستطيع القول إن الثقافة الغربية ـ في أغلبها ـ وأيضًا الثقافة العربية لمجتمعنا المعاصر تميل إلى تفسير الصمت باعتباره شيئًا سلبيًّا. وبالتالي إذا كنت من الذين يفضلون” الصمت” وأسلوب “ما قلّ ودلّ” وذلك على وتيرة الشخصية اليابانية أثناء اللقاءات والاجتماعات اليومية، فسوف يصبح انطباع مَن حولك عنك انطباعًا غير جيدٍ في تلك المجتمعات. ذلك أن الشخصية العربية على نقيض الشخصية اليابانية تجدها دائمًا حريصة على إيصال انطباعاتها لمن حولها. وبصرف النظر إن كان تعليقه أو رأيه جيدًا أو سيئًا فسوف تجده سباقًا في الادلاء برأيه خلال مشاهد الحياة والعمل اليومية.
من ناحية أخرى، يعتقد اليابانيون أن “فراغات الصمت” ليس شيئًا سيّئًا بشكل خاص. فلا توجد حاجة للكلمات بعد السماع لشرح أو عرض تقديمي رائع.. لذلك كان التزام الصمت عمدًا وسيلة بليغة للتعبير عن رد فعلهم وانطباعهم... وفق ميزان العقلية اليابانية!
في الماضي، كنت أعتقد أحيانًا أن رد فعل الشخصية اليابانية الهادئ في التفاعل والتعبير عن المشاعر والأفكار ما هو إلا مجرد عدم اكتراث أو عدم مبالاة بالأمر، لكني فطنت بعد ذلك إلى أنه وسيلة فعالة من وسائل ضبط النفس في التفاعل والتواصل مع الآخرين.
وعلى هذا النحو، نجد الصمت ـ وفق العقلية اليابانية ـ في علاقة طردية مع مفهوم التواضع وإنكار الذات والتحمل والمثابرة، مما يجعله يقف على مسافة متباينة الأبعاد مختلفة الزوايا عن أنواع الصمت المتعارف عليها في الثقافات الأخرى... وهنا يصبح الصمت بمثابة السور الذي يحيط بالحكمة.. فيصبح الصمت أداة تعبير وأسلوب حديث ومفهومًا اجتماعيًّا يجعل الناس يأملون فيه ويرون فيه سمات الشخص النبيل الذي يعمل في صمت بجد واجتهاد وأمانة وولاء دون تباهٍ أو تفاخر.
لكن الصمت لا يتوقف عند معناه اللغوي أو التواصلي.. أقصد معناه المحدود في الحد من الكلام والتواصل عبر اللغة وقنواتها المعتادة. فالصمت هنا يتعدى تلك الحدود إلى فضاءات وعوالم أخرى … ومن بينها صمت المشاعر أو عدم الإفصاح عنها للآخرين، وأيضًا صمت تعابير الوجه وكبح جماحها عن التعبير عما يدور في داخلك … والأسباب هنا كثيرة ومتنوعة. وفي الغالب ستجدها تتركز في خانة قواعد التواصل البشري وبناء ما يعرف بدائرة الـ wa /和 أو ما نستطيع أن نطلق عليه مفهوم السلم الاجتماعي أو التناغم والانسجام المجتمعي بين أفراد المجموعة الواحدة أو المجتمع الواحد.
وكذلك فإننا نجد الصمت أيضًا حاضرًا بين أفراد الأسرة وداخل المجتمعات المنزلية …وهنا تجد اللغة أداة بارعة في إجادة فنون الصمت من عدم الإفصاح والإيماء والإيحاء وغيرها من آداب التواصل الخفي المتفق عليه.. والتعبير الصامت قد يكون أحيانًا لفظًا مسموعًا ولكنه صامتٌ من ناحية المعنى … فيسأل الأب أو الأم ابنه أو ابنته عن شيء ما … وقد يكون السؤال متعلقًا بمعرفة اهتماماته أو اهتماماتها بعمل شيء أو … فيجيب الولد أو البنت قائلًا: ”لا أكترث بهذا أو ذاك …لا يوجد شيء بعينه …” … وهكذا يصبح الحوار حوارًا صامتًا … بعيدًا عن إبداء المشاعر والأحاسيس … متخذًا قاعدة وأسلوبًا لغويًّا فريد النوع بين لغات العالم … فهو لفظي دون مدًى فعليٍّ في التواصل بين طرفي الحديث … إنه حقًا عالمٌ فريدٌ … بل قل إنه مجموعة من العوالم المتوارية والمتوازية تعتمد سمة الصمت بوصفها أداةً بارعة في التواصل دون تواصل حقيقي!
وفي اللغة نجد كلمة خاصة باللغة اليابانية وهي ” 気丈/kijo“وهو مفهوم يتقاطع ببراعة مع مفهوم الصمت وعدم الإفصاح عن المشاعر. فكلمة kijo هو الشخص القادر على السيطرة على مشاعره عند الحزن … فيكون قادرًا على إخفاء مشاعره أو إظهارها بشكل محدود مراعاة لمشاعر الآخرين … فالحزن بقليل من التعبيرات وتحمُّلُ الصمت مهارةٌ وبلاغةٌ في التعبير … على الأقل حسب ميزان العقلية اليابانية!
ولعلّ أبلغ حكمة أجدها تنطبق على ميزان العقلية اليابانية بصرف النظر عن صحتها أو خطأها هي حكمة سيدنا لقمان الحكيم حين أوصى ابنه قائلًا: “إذا افتخر الناس بحسن كلامهم؛ فافتخر أنت بحسن صمتك”... ولعل اليابانيون هم أعرف الشعوب افتخارًا بصمتهم!