عبر قرون من التبادل التجاري، كانت قوافل الحرير الصينية التي تجوب طريق الحرير بين الصين والخليج العربي تُمهد لمرحلة جديدة من التعاون بين الحضارتين وتاريخ طويل من العلاقات التجارية القديمة، جمع بين الشرق الأقصى والخليج العربي، إلا أن دخول الصين إلى الساحة الخليجية الحديثة حمل معه تحولا غير مسبوق، ففي الثمانينات كانت بداية العلاقات الاقتصادية الحديثة بين الصين ودول الخليج، ولكن البدايات الحقيقية كانت مع تزايد حاجة الصين إلى النفط بعد اندفاعها نحو التنمية الاقتصادية، في حين أدركت بكين أن الخليج ليس فقط منطقة غنية بمصادر الطاقة، بل هو أيضا بوابة استراتيجية لتعزيز نفوذها في أسواق الشرق الأوسط وإفريقيا.
كانت الإمارات بموقعها الجغرافي المميز وبنيتها التحتية المتطورة نقطة انطلاق رئيسية للصين نحو هذه الأسواق، ففي العام 2018، أطلق البلدان مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية، إذ تم توقيع اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” التي تركزت على ثلاثة مجالات رئيسية: التجارة والتكنولوجيا والطاقة، وكان لهذا الاتفاق دور كبير في تعزيز التعاون في مجالات متعددة، وتوسيع نطاق الشراكة لتشمل مشاريع طموحة في مجال الطاقة المتجددة والبنية التحتية والخدمات المالية.
أما على مستوى التجارة، فقد باتت الإمارات نقطة انطلاق رئيسية للبضائع الصينية في منطقة الشرق الأوسط، بل وأصبح ميناء “خليفة” في أبوظبي واحدا من أكبر مراكز الشحن الصينية في المنطقة، حيث عزز افتتاح محطة كوسكو للحاويات التي تعد أول مشروع فضاء أخضر في الخارج بطاقة استيعابية تصل إلى 1.5 مليون حاوية سنويا، ولعل أبرز الأمثلة على هذه الشراكة الاقتصادية هي “مدينة التنين” في دبي، التي أصبحت مركزا تجاريا للصين في المنطقة، ما يعكس التوسع الكبير في حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي بلغ في العام 2023 أكثر من 72.6 مليار دولار.
ومنذ إعلان الصين عن مبادرة “الحزام والطريق” في العام 2013، كانت دول الخليج وعلى رأسها الإمارات جزءا أساسيا في هذه المبادرة التي تهدف إلى بناء شبكة من الطرق التجارية عبر القارات، حيث تم توجيه استثمارات ضخمة لتطوير مشاريع البنية التحتية مثل الموانئ والمناطق الاقتصادية الخاصة التي تعزز التجارة بين الصين وشرق إفريقيا وأوروبا. هذا التعاون المكثف في البنية التحتية جعل من دولة الإمارات العربية المتحدة مركزا محوريا في شبكة التجارة العالمية التي تطمح الصين إلى تشكيلها.
وإذا كانت العلاقة بين الصين ودول الخليج قد بدأت في مجال النفط، فإن السنوات الأخيرة شهدت تحولا جذريا نحو التعاون في مجالات أخرى مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا، وتسعى الإمارات إلى التنويع الاقتصادي بعيدا عن النفط، حيث أصبحت شريكا مهما للصين في مشاريع الطاقة الشمسية، ومن أبرز هذه المشاريع “مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية”، الذي يعد من أكبر المشاريع في العالم لإنتاج الطاقة الشمسية، حيث ستبلغ قدرته الإنتاجية 5000 ميجاوات بحلول العام 2030، باستثمارات إجمالية تصل إلى 50 مليار درهم، والذي سيسهم عند اكتماله في خفض أكثر من 6.5 مليون طن من الانبعاثات الكربونية سنويا.
وفي مجال التكنولوجيا، كانت الصين أحد أبرز الشركاء في تعزيز البنية التحتية الرقمية في الإمارات مثل “هواوي”، التي أسهمت بشكل كبير في تطوير شبكة الاتصال 5G، وتعد الآن من بين أكثر الدول تقدما في العالم في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك، دخلت الصين أيضا في مشاريع مشتركة مع الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، وهو ما يفتح الباب أمام إمكانيات جديدة للازدهار المشترك.
ولا شك بأن هذه العلاقات الاقتصادية المتزايدة بين الصين والإمارات باتت تؤثر إيجابيا على دول الخليج بشكل عام، حيث ساعدت هذه الشراكة في تعزيز التنوع الاقتصادي وتحفيز القطاع الخاص وزيادة حجم التجارة بين الدول الخليجية والصين. فالإمارات أصبحت واحدة من أكبر مراكز التجارة والمال في الشرق الأوسط، وأدى هذا التعاون إلى تعزيز مكانتها كمركز لوجستي رئيسي لقطاع النقل والتجارة بين الصين والدول الأخرى في المنطقة.
وعلى المستوى الإقليمي، يشهد الخليج بوجه عام تحسنا في بنيته التحتية وتحقيقا لمشروعات تنموية ضخمة على يد الاستثمارات الصينية، ما يساهم في تحسين القدرة التنافسية للمنطقة عالميا، ولا تقتصر هذه الفوائد على الإمارات وحسب، بل تمتد إلى البحرين وقطر والسعودية التي تمثل جزءا كبيرا من المبادرات المشتركة مع الصين وخاصة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا.
وعلى الرغم من الإنجازات الكبيرة، فإن هناك العديد من التحديات التي قد تواجه هذه الشراكة في المستقبل، ومن أبرز هذه التحديات التوازن الجيوسياسي، حيث يواجه الخليج تحديات متزايدة في التعامل مع التنافس بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، وقد تؤثر هذه الديناميكيات السياسية على العلاقات الاقتصادية الخليجية الصينية، ما يستدعي تكيفا سريعا ومرونة في التعامل مع هذه التحولات. ومع ذلك، تبقى هذه الشراكة بين الصين ودول الخليج نموذجا متميزا للفرص الاقتصادية المشتركة في ظل عالم سريع التغير.
ختاما، المستقبل يحمل الكثير من الإمكانيات لتوسيع التعاون في مجالات مثل الاقتصاد الأخضر، الطاقة المتجددة، والصناعات التقنية المتقدمة، ما يضمن لهذه الشراكة استمرار النمو والتطور، والعلاقة بين الصين والخليج ليست مجرد شراكة اقتصادية بل هي رؤية مشتركة للمستقبل من طريق الحرير القديم إلى المبادرات الحديثة، ساهمت وستسهم في إعادة تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي لتحقق فرص غير مسبوقة لدول الخليج وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة. ومع استمرار تطور هذه العلاقة، ستكون الصين والخليج في قلب التغيير الاقتصادي العالمي، ما يجعل من هذه الشراكة حجر الزاوية لبناء مستقبل مشترك من النمو والازدهار.