“اللغة كائن حي متغير بعوامل الزمان والمكان “... مع التسليم بأن لكل قاعدة استثناء، لكنك لن تجد من يختلف معك على صحة هذه القاعدة اللغوية المعروفة... في المقابل نجد أيضًا قاعدة أخرى تُؤكد أن الشعور أو الحس اللغوي المصاحب للغة لا يتأثر بسهولة على نقيض اللغة وتحولاتها، وعلى الرغم من اختلاف طبيعة كلاهما عن الآخر، لكن تظل المقاربة التي تكشف مدى بطء سرعة تغير اللغة بالمقارنة لعمر حياة الإنسان، وبالطبع هذا شيء ذو فضل كبير لصالح دائرة حياة الإنسان.
لكن ماذا لو كان من طبائع اللغات وما يصحبها من شعوري حسي وإدراكي التغير المستمر والتجدد السريع دون توقف أو نهاية، لو كان على هذا النحو لأصبح الإنسان مجبرًا كل فترة وجيزة على إعادة تجديد منظومة اكتساب لغته الأم، وهذا بالطبع شيء شاق وذو عناء.
وحين نرى الأمور على هذا النحو، نجد أن اللغة وما يصحبها من سمات شعورية إدراكية تصبح بالنسبة لنا بمثابة الإجرام الفلكية المتناثرة في السماء التي نستدل بها على كل ما هو غير مرئي من ثقافات الشعوب المتنوعة. والثابت هنا أن بكل ثقافات ولغات العالم جوانب مرئية واضحة الاستدلال وأخرى خفية صعبة الإدراك والفهم، حيث نطلق على الأولى “ثقافة الحس الشعوري اللغوي الخارجي”، والثانية “ثقافة الحس الشعوري اللغوي الداخلي”.
وما يعنينا ويهمنا في هذا الصدد ما يتعلق بالنوع الثاني “ثقافة الحس الشعوري اللغوي الداخلي”، والذي يهتم بالبحث في الآداب العامة وأنماط السلوك والتفكير والقواعد المنظمة للمجتمع وأبعاده الفكرية والتاريخية العامة والخاصة المستخدمة في كيفية تنظيم أفراد المجتمع للقواعد والقوانين القائمة عليه.
لا شك أن عصر “هييآن (794-1185 م) “هو أحد العصور اليابانية الفارقة في تشكيل الحس الشعوري الإدراكي للشخصية اليابانية، فسوف تجد الحس الشعوري لعصر “هييآن” يحتل موقع الصادرة بين سمات الحس الشعوري الممتد على مر التاريخ الياباني والممثل للشخصية اليابانية حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من هيمنة الرجل المجتمعية في ذاك الوقت، فلقد كان عصرًا لإبداع سيدات القصر الإمبراطوري وبزوغ نجم المرأة في عالم الرواية والأدب، فلقد نسجت أقلامهن أروع الأعمال الأدبية حسًّا وتصويرًا، مثل رواية “الأمير غنجي “ ورواية “ماكورا نو صوشي” وغيرها من الإبداعات الأدبية الأخرى. ولا شك في أن الرجال في ذاك الوقت كانوا قد فطنوا إلى ما تتميز بهن النساء عنهم من الشعور حسي الفريد والمهارات الأدبية، حيث شهدت تلك الحقبة من التاريخ الياباني تميزًا ملحوظًا في إنتاج الأعمال الأدبية الفريدة ذات الطابع الحسي المختلف عن غيرها من الحقب الأخرى، والتي كان يميزها حروف أبجديتها المعروفة بالـ “كانا”، وهي الأبجدية ذات النقاء العرقي الياباني الأصيل والتي ابتدعتها سيدات البلاد الامبراطوري كلغة كتابة خاصة بهن في ذاك الوقت.
ولكن يبدو أنه لم يطرأ على مخيلة أحد آنذاك أن تلك الأعمال الأدبية ذات قوالب أسلوب اليوميات لحياة سيدات القصر الامبراطوري سوف يأتي عليها يوم لتصبح فيه فيما بعد نقطة انطلاق وتحول لتشكيل الحس الشعوري والإدراك الجمالي للشخصية اليابانية. والجدير بالطرح هنا ما تميزت به تلك الأعمال الأدبية لعصر “هييآن” من حس شعوري إدراكي مشترك في التعبير اللغوي. وهنا أجد نفسي بمفردات اللغة فقط عاجزًا عن التعبير عن سمات هذا الحس الشعوري، الذي أصبح يُعرف فيما بعد بتعبير “مونو نو أوا ريه mono no aware/“، وقد تكمن صعوبة شرح معاني هذه الكلمة وسمات العالم الذي تعبر عنه في صعوبة إدراك الجزء الخفي لهذا النوع من الحس الشعوري للشخصية اليابانية.
وللحديث بقية
* أستاذ الدراسات اليابانية والترجمة بجامعة طوكاي اليابانية