في العقدين الماضيين، زاد تأثير القوة الاقتصادية لكل من الصين والولايات المتحدة بشكل ملحوظ على الاقتصاد العالمي، حيث بات التنافس بين هاتين القوتين الرئيستين يحدد العديد من الأبعاد الحيوية في الاقتصاد الدولي والتجارة العالمية. فقد أصبحت السياسات التجارية الحمائية والتوترات الجيوسياسية جزءًا لا يتجزأ من العلاقة المعقدة والمتشابكة بين الصين والولايات المتحدة، خاصة في ظل سعي كل دولة لترسيخ نفوذها الاقتصادي والسياسي في العالم.
ومنذ العام 2018، تصاعدت الحرب التجارية بين البلدين بشكل كبير بعد أن فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية كبيرة على السلع الصينية، وردت الصين بتعريفات مضادة استهدفت المنتجات الأميركية، ما أدى إلى حالة من القلق والاضطراب في الأسواق العالمية وأعلنت الولايات المتحدة في ذلك الحين أن هذه السياسات ضرورية للرد على ممارسات الصين التجارية “غير العادلة”، مثل سرقة الملكية الفكرية والإعانات الحكومية للصناعات الاستراتيجية، وربما كان السبب الأعمق يتمثل في القلق من فقدان الهيمنة الاقتصادية لصالح الصين.
ووفقًا لتقرير غرفة التجارة الأميركية في العام 2019، انخفض حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين إلى النصف ولم يقتصر الأمر على التجارة فقط، بل إن التوترات امتدت لتشمل قضايا أخرى مثل التكنولوجيا والقيود على الشركات الصينية البارزة مثل “هواوي”، حيث اتخذت الولايات المتحدة خطوات لمنعها من الدخول إلى أسواق عدة خارج الصين مما أثار ردود فعل قوية من بكين.
وفي الجانب الجيوسياسي، أدّت التطورات في بحر الصين الجنوبي وتايوان إلى زيادة التوتر بين البلدين، إذ تعتبر الصين هذه الأراضي جزءًا من أراضيها بينما تواصل الولايات المتحدة العمل على نحو أقرب تجاه تايوان مما يزيد الوضع تعقيدًا، ويشير المحللون الدوليون إلى أن هذه الجوانب الجيوسياسية تعمل على رفع وتيرة الصراع، وتجعل من الصعب التحكم في التحركات التجارية البحتة بمعزل عن الاستراتيجيات العسكرية والسياقات السياسية الأوسع.
وعلى الرغم من التوتر المستمر، تتشابك اقتصادات الصين والولايات المتحدة بشكل لا يمكن إنكاره، حيث تبقى الصين ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة والعكس بالعكس، ما يجعل التعاون بينهما حتميا لتجنب مخاطر قد تدمر الاقتصاد العالمي بأسره، وتشير التقارير الصادرة عن منظمات مثل صندوق النقد الدولي إلى أن التوترات التجارية قد قلصت النمو الاقتصادي العالمي بنحو 0.3 % سنويا منذ تصاعد التوترات، وهو الأمر الذي يبرز أهمية الحلول الدبلوماسية.
وفي ظل التطورات السياسية الراهنة، تتجه العلاقات نحو مزيد من التعقيد مع تولي إدارة أميركية جديدة بقيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب في العام 2025، حيث تعهدت الإدارة الجديدة بفرض تعريفات جمركية إضافية على السلع الصينية وهذا ما سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التصعيد التجاري، وقد أعربت الصين عن استعدادها لتعزيز الحوار، مؤكدة أنها لا تسعى إلى تجاوز الولايات المتحدة بل إلى بناء تعاون يحقق المصالح المشتركة.
وعلى الصعيد الجيوسياسي، تضاعفت التوترات بسبب قانون الدفاع الوطني الأميركي للعام 2025، الذي اعتبرته الصين تحديا لمصالحها السيادية، خاصة فيما يتعلق بدعم الولايات المتحدة لتايوان وتعزيز وجودها العسكري في المحيط الهادئ، وبالتوازي مع ذلك، يظل التنافس في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة قائما، حيث تسعى الصين إلى تعزيز قدراتها في الذكاء الاصطناعي بينما تواصل الولايات المتحدة فرض قيود تحد من نقل التكنولوجيا المتقدمة.
ووسط هذه التطورات، لا يمكن تجاهل الأثر العالمي لهذا الصراع، إذ تشير التقارير إلى أن النمو الاقتصادي العالمي تضرر بفعل هذه التوترات، ما يعزز الحاجة إلى حلول دبلوماسية تسهم في خفض التصعيد وضمان استقرار الأسواق.
ختاما، إن نجاح القوتين في إدارة هذا التنافس بشكل مسؤول سيحدد مستقبل الاقتصاد العالمي وقدرته على الصمود أمام التحديات المتسارعة، وفي عالم مترابط كعالمنا اليوم يبقى التعاون خيارا لا غنى عنه لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة حتى إن بدا الطريق إليه محفوفا بالعقبات.