العدد 6021
الأربعاء 09 أبريل 2025
الحياة تبدأ من عمر الأربعين
الأربعاء 09 أبريل 2025

 “الحياة تبدأ من عمر الأربعين”، مثلٌ يتردد كثيرًا، حتى بات أشبه بالحكمة الراسخة في أذهان الكثيرين، وقد يبدو غريبًا لأول وهلة أن تربط “البدايات” بعمرٍ يظنه البعض مرحلة منتصف الطريق أو حتى بداية النهاية، لكن ما وراء هذا القول من حكمة وتجربة يستحق التأمل.
 ففي الأربعين، يبدأ الإنسان غالبًا النظر إلى الحياة بعين مختلفة. لا تعود الأمور تقاس فقط بالمكاسب والخسائر، بل بالقيمة، بالمعنى، وبما تبقى من العمر لا بما مضى منه. هي لحظة مراجعة، لكنها ليست لحظة ندم، بل فرصة لإعادة التشكيل، وإعادة التوجيه. فالشخص الأربعيني يكون قد جرّب وفشل ونجح، أحب وخذل واحتوى، خسر وربح، وذاق من الحياة ما يكفي ليصبح أكثر حكمة، وأكثر إدراكًا لما يستحق السعي خلفه. ولعلّ أجمل ما في هذا العمر، أنه يمنح الإنسان وضوح الرؤية. لم يعد ذلك الشاب الذي تحكمه الحماسة وحدها، ولا ذلك الطفل الذي يرى العالم بعين مندهشة. هو شخص نضج بما يكفي ليميز ما يريد، ويملك الشجاعة الكافية ليقول “لا” لما لا يريده. في الأربعين، تتقلص دائرة العلاقات لكنها تزداد عمقًا. تنخفض الأصوات من حولك، لكن صوتك الداخلي يعلو.
لكن الحقيقة التي تستحق الإضاءة، أن الحياة لا تبدأ فقط في الأربعين، بل يمكن أن تستمر بكل حيويتها حتى بعد الستين. فكم من شخصٍ بلغ الستين أو السبعين، ولا يزال في قمة عطائه ونشاطه، جسدًا وروحًا.
شخصيًّا حضرت مؤخرًا حفلًا للفنان المصري المعروف عمرو دياب في البحرين، هذا الفنان تجاوز الستين من عمره، ومع ذلك كان على المسرح وكأنه في الثلاثين (عيني عليه بارده)، طاقة لا تصدق، حضور مبهر، وصوت مازال يلهب القلوب. عن نفسي أعتبره مثالًا حيًّا على أن العمر مجرد رقم، وأن سر الشباب لا يقاس بالسن، بل بالحيوية الداخلية والإصرار على الحياة.
وأقولها بكل صراحة، كنت طوال الحفل أبحث عن السر وراء حفاظه على شبابه، بل كنت أحسده لسبب واحد لا غير، وهو لأنني لم أحقق ولا الربع خصوصًا وأنني في نفس عمره!
 دعونا نعتبر أن الأربعين بداية مرحلة وعي، لا نهاية شباب. ولنعلم أن لكل عمر جماله، ولكل محطة في الحياة ما يميزها. المهم أن نعيشها بصدق، ونواصل السير مهما تقدمت بنا السنوات، فطالما القلب نابض بالحياة، فالحياة لم تبدأ فقط.. بل لا تزال في أوجها.
 وقد يكون التحدي الأكبر في هذه المرحلة، ليس في تغير الجسد أو تسارع الوقت، بل في مقاومة الصورة النمطية التي يفرضها المجتمع عن العمر. كم من شخصٍ توقف عن الحلم فقط لأن الناس أقنعوه بأن “وقته فات”، وكم من آخر كسر القالب وبدأ من جديد رغم كل شيء؟ العمر لا يُملي علينا متى نبدأ، بل نحن من نختار التوقيت. القيد الحقيقي ليس في السنوات، بل في القناعة الداخلية بأن الوقت لا يزال ملكنا.
من وجهة نظري المتواضعة أؤمن بأن الكثير منا يفتقد إلى روح المنافسة ومواجهة التحديات، فنجد الكثير منا يردد كلمة “مستحيل” أو “ما يصير” بالعامية! فدائمًا نكون سلبيين ولا نواجه المشكلة بالتفكير الإيجابي أو بطريقة إيجاد الحلول.
وفي واقعنا اليوم، نرى أسماء كثيرة تثبت أن البدايات لا ترتبط بعمر. الكاتبة البريطانية J. K. Rowling كتبت أول رواية من HarryPotter بعد أن تجاوزت الثلاثين وكانت أمًّا عزباء تعيش على المساعدات. الممثل الأميركي Morgan Foreman لم يُعرف على نطاق واسع إلا بعد الخمسين. أمثلة كثيرة تؤكد أن النجاح والنضج والعطاء لا علاقة لها بتاريخ الميلاد، بل بالشغف والإصرار.
وللدين أيضًا نظرته العميقة إلى مسألة العمر والنضج. ففي الإسلام، بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة في عمر الأربعين، وكأن هذا الرقم ليس مصادفة، بل لحظة اكتمال واستواء في التجربة الإنسانية. ولم يكن ذلك التوقيت فقط علامة نبوّة، بل إشارة إلى أن الإنسان يبلغ في هذا العمر ذروة اتزانه العقلي والروحي. ولذا، لا يُنظر إلى التقدم في السن كعقبة، بل كفرصة لمزيد من القرب من الله، والوعي بالذات، والتكامل في الشخصية. فكم من أناس عادوا إلى رشدهم في الأربعين أو الخمسين، وكان تحولهم نقطة بداية حقيقية في حياتهم، لا نهايتها.
لا شك أن الحياة فعليًّا تبدأ بعد الأربعين، حتى ذلك الوقت أنت فعليًّا تقوم بمجرد “أبحاث”. لعلّ هذه المقولة لعالم النفس السويسري Carl Jung أصبحت اليوم نهجاً للكثير من العاملين في مجال التنمية البشرية والمحاضرين في مجالات مختلفة تهتم بجودة الحياة والصحة النفسية والروحية، ولا يمكن إنكار أن الحديث عن تغير نظرتنا للحياة بعد سن الأربعين هو حديث يفتح بوابات الفلسفة والرغبة بمعرفة المزيد عن تجارب الآخرين.

كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .