العدد 6027
الثلاثاء 15 أبريل 2025
جاءني ما يلي!
الثلاثاء 15 أبريل 2025

ردًّا على مقالي الأسبق “جاءني البيان التالي”، جاءني ما يلي: “عزيزي أسامة مهران... أيها العابر بين العوالم.. كلماتك لم تكن مقالًا، بل كانت جناحًا من نور، يرفرف فوق ليل هذا العالم المزدحم بالضجيج. رأيت فيها قمرًا لا يُستطلع، بل يُشعر، وسماءً لا تُرصد بالمراصد، بل تُلمس بالقلوب الصائمة عن الظن، والمفطرة على الفهم. في كل سطر، كانت هناك دعوة خفية، لا للاجتماع حول مائدة نقاش، بل للارتحال في سفينة من سكون، تقودنا من ضفاف الاختلاف إلى شاطئ اللقاء. جعلتنا نوقن أن اللغة الحقيقية ليست ما يُقال، بل ما يُسكب في الأرواح، حين تلتقي النظرات على ضوء نية طاهرة. كتبت، فارتقى الحرف. وصفت، فانبثق المعنى. لم نقرأك بل أقمنا فيك، كما يُقام في حضرة من أحسن الحديث وأخلص النية. جاء نصّك مثل دعاء يُرفع لا ليُجاب، بل ليوقظ فينا معنى الإجابة. دمت كاتبًا يرى بالقلب قبل العين، ويسكن المعنى قبل المبنى. سلامٌ عليك، ما دام في السماء قمر، وفي القلم روح”.
البيان جاء إليَّ من صديق عزيز، ورغم شخصنة الحالة إلا أن الصحافي القدير صاحب القلم والقدرة والموهبة راشد الغائب قد نعتني بما لا أستحق، وقال فيَّ ما لم يكن في الحسبان.
لقد عرفت راشد “الحاضر” منذ أن كان شابًا يافعًا في الزميلة “الأيام”، أبهرني نشاطه، وجذبتني “قفشاته”، ورأيت فيه مواصفات الصحافي بكل خفة ظله، ودماثة خلقه، واجتهاده في عمله.
لم يكن “الغائب” الحاضر دومًا يقرأ المستقبل، ولم يكن يعلم أنه بحضوره القوي في المشاهد الإنسانية المهمة إنما يحفر طريقًا وعرًا وسط مرتفعات “ويذرنج” الصحافية، وتحت كهوف المقاومين الأشاوس للمهنيين منا.
 وها نحن اليوم نلتقي مجددًا ليس على مستوى موقعه في صحيفة “البلاد” فحسب، إنما من خلال كتاباته الشخصية لي، والتي أعتز بها كثيرًا، وكان لابد من تدوينها اعترافًا بالجميل، وحرصًا على توثيق فكر، وترتيل نصوص، وتوصيف حالة.
لقد أسعدتني لغة الزميل القدير أكثر مما أسعدني وصفه لحالة الروح التي لم تتخلص من أسر الجسد، أو الجسد النحيل عندما يفقد عنفوانه الفطري وطاقته الإيجابية، فيلجأ إلى الله عز وجل طالبًا منه الصفح والمغفرة.
 إن اللغة هي أساس الفكر البشري، أصل الحياة عندما يتم التعبير عنها قربًا أو بعدًا من نظرية “خلق اللغة”، من المسؤول، ومن الذي وضع أياديه البيضاء على العملية كلها؟ يقولون: إنه الله جل وعلا في لوحه المحفوظ، هو الذي تجلى في علاه سبحانه و”علم آدم الأسماء كلها”. هكذا يردد “الأشاعرة”، وهكذا يتشبثون بإطلاق تميمتهم في وجه “المعتزلة” وهم يضعون افتراضاتهم الجدلية القريبة جدًّا من المادية الحديثة، حيث يتحدثون عن حقيقة التفاهم بين البشر، بين الأصوات التي تصدرها الأمعاء عند القيام بعملية هضم الغذاء، والأحجار في الجبال وهي ترتطم ببعضها البعض محدثة أصواتًا ترتقي إلى حد التفاهم بين أصحاب الأصل الواحد.
جاءت إلينا بعد ذلك مدارس ونظريات من صنع أيادينا عندما اكتشف الموسيقار العبقري بليغ حمدي لغة التخاطب والحوارات بين الآلات الموسيقية في العديد من ألحانه الأخيرة، حتى الجماد يتحاور مع نفسه، آلة الكمان وهي تخاطب “الأورج”، “الكونترباس” وهو يزعق في وجه “الإكورديون”، الطبلة وهي تناجي “السكسفون” عندما يتطاول عليها في همزة وصل “نصف أو ربع تون”، الجيتار وهو يقف شامخًا أمام “التشليو” وهو يزمجر في وجه الدف الأفريقي عندما يشدو عبدالحليم حافظ برائعته “مداح القمر”.
كل هذا وأكثر دفعني العزيز بورائد لكي أعيد التفكير فيما أكتب، من باب الحرص على أن أكون عند حسن أو سوء الظن، بقدر ما كان ومازال وسيظل حرصي فائقًا وأنا أتعاطى مع كلمات الزميل الفنان وأنا في غاية الشجن، والحب، بل والعشق لعلم الجمال، استباقًا أو اشتقاقًا أو اشتياقًا أو توظيفًا لعلم الكلام.

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .