في زمنٍ تُطوى فيه المسافاتُ بنقرة، وتُستحضرُ المعلومةُ في ثوانٍ، نشأ جيلٌ يمتلك كل شيء تقريبًا... إلا شيئًا واحدًا: الفهمَ العميق. جيلٌ يتنقّل بسلاسة بين تطبيقات ذكية وأدوات فورية ونتائج جاهزة، لكنه يبتعد - شيئًا فشيئًا - عن جوهر الابتكار. وكأنه يُصاب بـ “زهايمر الابتكار”، ذلك المرض الصامت الذي لا تُكتشف أعراضُه إلا حينَ نواجه موقفًا يتطلب تفكيرًا حقيقيًا أو اعتمادًا على الذات. فإذا بنا نُفاجأ بأن تلك القدرة قد تلاشت في صمت.
جيل يعرف كل شيء... لكنه لا يفهم شيئًا
فعندما تفقد الذاكرةُ الإبداعيةُ ملامحَها تدريجيًا تحت وطأة الحلول السريعة والأنماط الجاهزة، تتضاءل فرصُ التفكير العميق، ويتراجع إسهامُ الفرد والمجتمع في إنتاج أفكار إبداعية مستقلة، وتضعف القدرةُ على حل المشكلات بطرق ذاتية. بات من السهل أن نعرف كل شيء، لكن من الصعب أن نفهم بعمق. في ظاهر الأمر، يبدو هذا تطورًا مبهرًا. لكن إن أمعنا النظر، سنجد أنفسنا نبتعد – دون أن نشعر – عن جوهر التجربة والتراكم المعرفي، لنستسلم لنتائج جاهزة، وقد تكون سطحية.
مفارقة العصر: أدوات تزداد ذكاءً... وعقول تزداد خمولًا
من هنا تبدأ ملامح ما يمكن تسميته بـ”زهايمر الابتكار”؛ حالة ذهنية لا تُفقدنا الذاكرة فحسب، بل تُضعف قدرتنا على المبادرة والتفكير العميق. لا يحدث هذا بشكل مفاجئ، بل يتسلل إلينا بهدوء. نبدأ باستخدام الأداة كمجرد وسيلة مساعدة، ثم نألفها، ومع الوقت نعتمد عليها في كل شيء، حتى تتحول من محفّز إلى بديل، ومن داعم إلى عكاز لا نستغني عنه. ومع هذا الاعتماد المتزايد، يتآكل الفضول، وتضعف رغبتنا في الفهم، ويغيب عمق السؤال الذي كان يشعل شرارة الابتكار، ويمنح كل فردٍ فينا الفرصة لصناعة شيء فريد يعبر عن ذاته. فنصبح متقنين للاستهلاك، وننسى كيف نصنع شيئًا من لا شيء، بذاتنا.
فجوة الوعي بين ما نستطيع فعله وما نفهمه
المشكلة ليست في التكنولوجيا بحد ذاتها، فهي إنجازات مذهلة أبدعها الطموح والشغف البشري. بل في الطريقة التي أصبحنا بها نتعامل معها، إذ نحولها إلى بديل عن التفكير، بدلًا من أن نجعلها داعمًا له. الطالب الذي يكتب بحثًا باستخدام الذكاء الاصطناعي دون أن يتساءل: كيف كُتب؟ ولماذا بهذه الطريقة؟، في الحقيقة يختار الاستهلاك بلا تفكير أو نقد. ومن يصمم مشروعًا كاملًا باستخدام قوالب جاهزة دون أن يفهم كيفية عملها، لم يتعلم شيئًا سوى الاعتماد على النتائج الجاهزة.
الأزمة الحقيقية: لا في الأدوات، بل في الوعي
في رأيي، لم تعد المشكلة في تنوع الحلول التقنية، بل في وفرتها المفرطة. فقد أصبحت الحلول أكثر من الأسئلة، وكل ما نحتاجه متاح بنقرة زر؛ مما يقلل الحاجة إلى بذل الجهد، أو التفكير، أو البحث، أو حتى التجربة والنقد. وهكذا نصل إلى النتيجة، لكن دون أن نعلم كيف وصلنا. نُنجز المهام، لكننا نفقد القدرة على فهم ما أنجزناه.
جيل رقمي... بلا وعي
عندما نتأمل قليلاً، نجد أن جيل اليوم لا تنقصه الإمكانيات كما كان الحال مع الأجيال السابقة، بل يمتلك أدوات جبارة. يمكنه أن يطلق مشروعًا رقميًا متكاملًا في دقائق معدودة، أو يصمم حملة تسويقية في لحظات. لكن السؤال الأهم يبقى: هل يفهم حقًا ما يجري؟ هل يدرك آلية عمل هذه الأدوات؟ هل يستطيع تطويرها أو إصلاحها، أو حتى التفكير في بديل عنها؟ الإجابة، في كثير من الأحيان، لا تبعث على الاطمئنان.
الدهشة لا تصنع الوعي
ما نراه اليوم هو وفرة كبيرة في الإمكانيات، مقابل فجوة أكبر في الفهم والمهارات الابتكارية والنقدية. وهذا التباين يولد حالة من الانبهار بالتقنية، لكنه لا يدفعنا إلى التفكير، بل يبقينا في حالة من التلقي المريح. وهنا تتعمق الأزمة: فحين تختفي الحاجة إلى التجريب والخطأ، تختفي معها متعة التعلم الحقيقي وروح الاكتشاف، وقدرتنا على تجاوز المألوف.
عندما تُنسينا الراحة كيف كنا نُبدع
تأمل معي هذه اللفتة البسيطة: حين بدأنا تعلم الحساب في المدرسة، كنا نعتمد على التفكير المنهجي، نكتب الخطوات بعناية، نجرّب، نُخطئ، ونتعلم من المحاولة. كانت العمليات الذهنية تمرينًا يوميًّا على التركيز والمنطق. ومع تقدّمنا في المراحل الدراسية، بدأنا باستخدام الآلة الحاسبة. في البداية، كانت مجرد أداة مساعدة نلجأ إليها عند الحاجة. لكن بمرور الوقت، أصبحنا نعتمد عليها في كل شيء، حتى في أبسط العمليات. واليوم، يجد كثير منّا صعوبة في حل مسائل بسيطة دونها. أليس هذا هو الواقع؟
هذه اللفتة ليست عن الحساب فقط، بل عن مهارات كثيرة تبدأ بالتآكل دون أن نشعر. إنها صورة مصغّرة لحالة أوسع يمكن تسميتها بـ”زهايمر الابتكار”؛ حيث تُستبدل التجربة بالنتائج الجاهزة، وتُختصر المهارة في خطوة واحدة، فيتراجع الفهم، وتضعف القدرة على الإبداع.
حين كان الفهم هو الخيار الوحيد
لعل الجيل السابق لم يكن يملك ربع هذه الأدوات، لكنه كان مضطرًا للتفكير. على سبيل المثال المبرمج في الثمانينيات وحتى التسعينيات كان يكتب كل سطر برمجي بيده، يتعلم من التجربة، يخطئ ويصحح. لم يكن هناك بديل عن الفهم. أما اليوم، فقد أغرتنا الأدوات بجمال واجهتها وسرعة نتائجها، حتى أصبحنا نغفل عن فهم آلياتها، ونتعامل معها كحقائق نهائية. وهذا في حد ذاته يمثل كارثة حقيقية، لا تقتصر على تفويت الفرص الإبداعية فقط، بل تهدد القدرة على الفهم العميق، وسأتناول هذا الموضوع بشكل موسع في مقال آخر.
الوعي: الحد الفاصل بين التفكير والتلقّي
الجيل الذي ابتكر الأتمتة والذكاء الاصطناعي وكل هذه الأدوات المذهلة التي نشهدها اليوم، هو نفسه جيل الثمانينات والتسعينات. لم يكن تابعًا لها، بل كان موجهًا لها، مدركًا لنتائجها، ومتحكمًا في مساراتها. ابتكرها لتكون مساعدًا له، لا بديلًا عنه. كان يعرف الإجابة، ويعي السؤال، ويستخدم الأداة لرفع السرعة، وتحسين الجودة، وتقليل الأخطاء، دون أن يفقد موقعه كمصدر للفكر والإبداع. أما جيل اليوم، فمع كل هذا التطوير التقني، تتراجع لديه مهارة الفهم العميق، ويضمر تراكمه المعرفي يومًا بعد يوم، حتى بات خطر النسيان، أو ما يمكن تسميته بـ”زهايمر الابتكار”، لا يهدد المعرفة المتراكمة فحسب، بل يهدد أيضًا قدرتنا على طرح الأسئلة العميقة وصناعة شيء خاص بنا.
دعوة عاجلة للاستيقاظ
ليس هذا انتقادًا للجيل الحالي بقدر ما هو دعوة للاستيقاظ. فالمسألة لم تعد مرتبطة بالأدوات المتاحة، بل بنوع الوعي المستخدم معها. الفارق الحقيقي بين من “يستخدم الأداة” ومن “تُستخدم عليه الأداة”، هو الوعي. الأول يُوظف التقنية لتخدم فكرته، والثاني يتبعها، ويخضع لإملاءاتها دون أن يشعر. نحن لا نرفض الأدوات، بل نُقدّرها. ولا نُقلل من أثرها، بل ندرك قيمتها. لكننا نرفض أن تأخذ مكاننا في التفكير. نرفض أن تُصبح النتيجة الجاهزة بديلاً عن التجربة. ونؤمن أن كل فكرة عظيمة بدأت من سؤال، لا من قوالب أو تطبيقات. والابتكار لا يموت، لكنه ينام في العقول التي استبدلت الجهد بالراحة... لا يُوقظه إلا من قرر أن يتساءل، ويجرّب، ويتحمّل مشقة الفهم.