+A
A-

رؤية تحليلية لأنماط تصميم المقاهي التراثية في القرن العشرين

أصبح من الشائع محليّاً رؤية الانتشار الواسع للمطاعم الشعبية التي تقدِّم نكهات المطبخ البحريني التقليدي في شتّى أنحاء المملكة. وقد انتشرت هذه الظاهرة مؤخراً في العديد من الدول المجاورة كذلك من سوق المباركية الكويتي حتى سوق واقف القطري. وتعددت أسباب انتشار هذه الظاهرة التصميمية، فأوّلها حنين الجيل المعاصر لجماليات تجربة الطعام التراثي بما يحمله من بساطة التقديم وأصالة الأطباق والذكريات التي تنعشها في ذهن الزائر. كما لعب الاهتمام الوطني بالسياحة وزيادة أعداد السياح دورا مهما في رواج هذه المطاعم كمحطة رئيسية لعيش التجربة المحwلية.

وليس من المستغرب أن تغدو هذه المقاهي والمطاعم المقصدَ الأول للعائلةِ البحرينية والعوائل الخليجية والأفراد والزوّار بعد أن ارتقت هذه المطاعم بتصاميمها وأساليب تقديمها للأكلات التقليدية في أُطر تصميمية حديثة وفراغات داخلية مميَّزة. ويتنوَّع تصميم هذه المقاهي والمطاعم إلى ثلاثة أنماط. النَّمط الأول يعكس الطابع التقليدي البحت، كما يُرى في “قهوة حاجي” و “أحمد عبدالرحيم” في المنامة، و “بوخلف” في المحرق، ومطعم “امَّوَّش” في البديع و”الدهليز” في الرفاع. حيث يعتمد هذا النموذج على استخدام التقسيمات المصغرة للمكان والاعتماد على الطابع المعماري التقليدي للبيوت البحرينية القديمة والأثاث التقليدي للطاولات أو الجلسات الأرضية بالإضافة إلى الكثير من الاكسسوارات والأدوات التقليدية المستخدمة بصورة رمزية وجمالية في المكان، والتي تهدف لتحريك “النستولجيا” الفردية لزمن الغوص، وعقد الستينات من القرن الماضي، بما يشمله من لمسات فتوغرافية قديمة وصوتيات ومباهج بسيطة تنوعت بين الخربشات الخطية لأمثال وحكم شعبية أو ملصقات الأفلام المصرية القديمة والكتب والأسطوانات الصوتية أو المذياع كوسائل للترفيه.

بينما يعتمد النمط الثاني للمقاهي الشعبية على المدرسة التصميمية التي تعتمد على إدماج وحدات ومقاييس العناصر المعمارية والفراغات الداخلية التقليدية مع الخطوط التقسيمية الجريئة ومواد البناء الحديثة والألوان المعاصرة. وهذا النمط الهجين بين القديم والحديث يلاقي رواجاً أكبر حيث يتناسب مع المحتوى التقليدي ولكن في إطار من المعاصرة.

يعتمد هذا النمط في تصميمه على إنشاء الفراغات الداخلية بالاستعانة بنماذج مطورة للزخرفة الإسلامية التقليدية المعقدة والتي تجردت في اشكالها وزادت في احجامها لتحوي أشكالا هندسية أبسط توزَّعت على الحوائط والفواصل الجدارية. كذلك اعتمدت الأسقف والفواصل الداخلية على تقنية القطع والحفر الإلكتروني الـCNC[Computer Numerically Controlled Machining)إلى جانب تقنية الـGRC [Glass Fiber Reinforced Concrete]لعمل القوالب الاسمنتية المعززة بالالياف الزجاجية المقاومة للرطوبة والحرارة، كما يُرى في مطعم “نصيف” و “مرشّ” و “البسطة” و “شي شعبي”.

وتُظهر هذه التصاميم الحديثة ترابطاً فريداً بين نِتاج المصمم المعماري والداخلي وحتى مصمم الجرافيك دون الاعتماد الكلي على الحرفي البحريني وتقنياته التقليدية. ومن الأمثلة البارزة لهذا النمط ما يُرى اليوم في الهوية البصرية لهذه المحلات التجارية والتي تفرَّدت في استخدام المصطلحات اللغوية التقليدية كعناوين لها مثل مطاعم (العريش، والدهليز، وزعفران). وقد عزَّزت هذه المطاعم دور الطفرة الفنية الجديدة لأعمال ابتكارية ومشغولات تعتمد على مزج القديم بالجديد كما نرى في الملصقات الجدارية واللوحات الفنية التي تملأ مطاعم النمط التصميمي الثاني.

ويُرى كذلك النموذج الحديث لتصميم المقاهي الشعبية وفيه بدايات لأسلوب تصميمي جريء ومتفرِّد في توزيع الفراغات الداخلية وتشطيبها بصورة مغايرة للنموذجين السابقين. حيث يخلق المصمم جوَّاً مغايراً للفراغ الداخلي بالاعتماد على مصطلحات تصميمية جديدة مثل التقسيمات الجدارية المعدنية والفواصل المخرَّمة، والإنارة المخفيّة لتحقيق هُوية جديدة للمكان تذكِّر الزائر بروح العمران التقليدي، ولكنها لا تتطرق الى استخدام العناصر التقليدية،بل ترسخ في الذاكرة صورة جديدة، وهُوية جديدة، وتجربة طعام فريدة، هي مزيج من نكهات قديمة وروائح عبقة من الذاكرة. ومن أمثلة هذا النموذج يتشكل مطعم “دارسين” في متحف البحرين الوطني. حيث يتجسد هذا التّابل العريق بطريقة غير مباشرة في التصميم المعاصر والأنيق لقطع المفروشات الخشبية المنحوتة ببساطة والممتزجة مع نعومة الجلد الأصيل بألوان عاجية وترابيّة مستمدة من ألوان الطبيعة الصحراوية للمنطقة.

وبالرغم من اختلاف الأنماط التصميمية الثلاثة المستعرضة هنا،إلا أنها تسعى، بمجملها، لخلق تجربة مميزة أخذت تستهوي المواطن البحريني والسائح على حدٍّ سواء كما اصبحت “موضةً” تجارية مدّرة لاصحاب الأعمال الصغيرة أو المنزلية. وهذا بحد ذاته يُعتبر إنجازاً في سبيل المحافظة على جزء من موروثنا التراثي بتقاليده وتفاصيله الدقيقة والتي يمكن توثيقها في هذه المساحات وإعادة ترسيخها في أذهان الأجيال الحالية والقادمة.

بقلم د. نهال المرباطي

أستاذ مساعد بقسم العمارة والتصميم الداخلي

كلية الهندسة بجامعة البحرين