+A
A-

ديناميات السوق.. هل تغير خريطة القوى بصناعة البتروكيماويات؟ - تقرير -

لسنوات، ظلت صناعة البتروكيماويات قطاعاً هامشياً ضمن الأعمال الرئيسة لأكبر شركات النفط في العالم، ولكن هذا الوضع تغير مع تعديل شركات مثل “إكسون موبيل”، و”رويال داتش شل” إستراتيجياتها، والبدء في التركيز بشكل أكبر على هذا القطاع، في محاولة للنجاة من تداعيات أسوأ تراجع شهدته أسعار الطاقة في عقد من الزمان.

في الماضي، حين كانت شركات النفط والغاز تجني مليارات الدولارات من الأرباح نتيجة ارتفاع أسعار الخام، كانت عوائد قطاع البتروكيماويات لدى تلك الشركات لا تشكل نسبة معتبرة في حساب الأرباح والخسائر. أما اليوم، ومع فقدان معظم الشركات النفطية الكبرى مليارات الدولارات في أنشطة الإنتاج والاستكشاف، أصبحت البتروكيماويات واحدة من أكبر مصادر الدخل إن لم تكن أكبرها.

مثال ذلك، خلال الربع الأول من العام 2016، بلغت أرباح قطاع البتروكيماويات لدى “إكسون موبيل” نحو 75 % من أرباحها الإجمالية البالغة 1.8 مليار دولار، وخلال الفترة نفسها سجلت الشركة خسارة قدرها 75 مليون دولار عن أنشطتها الإنتاجية للنفط والغاز، ولكن قبل ما يقرب من 3 أعوام، وتحديداً خلال الربع الأول من العام 2014، حين كان يتداول النفط فوق 100 دولار للبرميل، شكلت أعمال البتروكيماويات لدى “إكسون” أقل من 13 % من أرباحها، بينما بلغت أرباحها من أعمال النفط والغاز 7.8 مليار دولار.

وبعد أن ظلت البتروكيماويات عقودا صناعةً غربيةً بشكل كامل تقريباً، تغيرت ديناميات السوق العالمية خلال السنوات الأخيرة على خلفية النمو المذهل الذي شهده القطاع في الشرق الأوسط، لتظهر مراكز قوى جديدة تستحوذ على حصص سوقية معتبرة، غير أن الاضطرابات المتلاحقة التي تشهدها الأسواق، بما في ذلك ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة وانخفاض أسعار النفط وحرص كل من الصين ودول أخرى على رفع قدراتهما الإنتاجية، قد تؤدي إلى إعادة تشكيل مشهد صناعة البتروكيماويات خلال السنوات المقبلة.

هذه الاختلالات وغيرها قد تؤدي إلى تحول ميزان القوى بين اللاعبين الإقليميين، مما يعرض العديد من المنتجين الرئيسيين للبتروكيماويات لخطر فقدان القدرة التنافسية التي يتمتعون بها منذ فترة طويلة، إذا استمر الوضع كما هو عليه.

النفط الصخري

أسهمت نهضة النفط الصخري في الولايات المتحدة في إغراق السوق بكميات ضخمة من الإيثان – رخيص التكلفة – المادة الأولية المستخدمة في صناعة البتروكيماويات. هذا التطور أعطى المنتجين الأميركيين ميزة في التكلفة على منافسيهم الأوروبيين والآسيويين الذين يعتمد معظمهم على النافتا كمادة وسيطة.

وتوافر المادة الأولية الرخيصة أسهم في تحفيز الشركات الأميركية على زيادة قدراتها الإنتاجية في الولايات المتحدة، فوفقاً لتقرير نشرته “مجموعة بوسطن الاستشارية” في نوفمبر 2016، من المتوقع أن ترتفع القدرة الإنتاجية للإيثيلين في الولايات المتحدة بمقدار 7.8 مليون طن سنوياً خلال عامي 2017 و2018.

في الوقت نفسه، تستمر العديد من شركات البتروكيماويات في الولايات المتحدة في رفع إنتاجها من الميثانول، وبحسب بعض التقديرات، قد تصبح أميركا الشمالية مصدراً صافياً للميثانول في العام 2018، لتتنافس رأساً لرأس مع المصدرين من دول مجلس التعاون الخليجي.

وعلى الرغم من أن الانخفاض الحاد الذي شهدته أسعار النفط خلال الأعوام الثلاثة الماضية أدى إلى تآكل ميزة الإيثان نسبياً، إلا أن الولايات المتحدة ستظل تستفيد على المدى الطويل من انخفاض تكلفة الإيثان. وفي المقابل، سيبقى منتجو الإيثيلين المعتمد على النافتا في أوروبا وآسيا ومنتجو الإيثلين القائم على الفحم في الصين عند أعلى نقطة على منحنى تكلفة العرض. وباختصار، على الرغم من أن المنتجين من دول مجلس التعاون الخليجي الذين يعتمدون مثل الأميركيين على الإيثان لا يزالون هم الأكثر قدرة على المنافسة في العالم، فإن منتجي أميركا الشمالية يلحقون بالركب بخطوات ثابتة.

ضرورة تغيير الإستراتيجية بالشرق الأوسط

خلال الفترة ما بين عامي 2004 و2014، أسهمت دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 11 % في نمو الطاقة الإنتاجية العالمية للبتروكيماويات، وأصبحت اليوم أحد أهم اللاعبين في إنتاج وتوريد الإثيلين والمشتقات والميثانول إلى الأسواق العالمية.

وأسهم التوسع في قطاع البتروكيماويات مساهمة كبيرة في اقتصادات المنطقة، كما ساعدها على تنويعها. وبحسب تقرير نشرته شركة الاستشارات “ماكينزي” في أبريل 2014 تدعم صناعة البتروكيماويات نحو 840 ألف وظيفة، تشمل 110 آلاف وظيفة في مجال الإنتاج الكيميائي، و730 ألف وظيفة أخرى غير مباشرة، تضم موردين ومقاولين وعاملين في مجالات مثل إنتاج الغاز والصيانة الخارجية وخدمات النقل والخدمات اللوجيستية الأخرى.

ومع ازدهار صناعة البتروكيماويات في الشرق الأوسط، برز عدد من الشركات في المنطقة كشركات عالمية رائدة. فقد رسخت الشركة السعودية للصناعات الأساسية “سابك” – إحدى أكبر شركات البتروكيماويات في العالم –  قدميها في أوروبا، واشترت وحدة البلاستيك التابعة لـ “جنرال إلكتريك” وضخت استثمارات في مشاريع لإنتاج البتروكيماويات بالصين، وتستمر إلى الآن في التوسع. مع ذلك، يواجه قطاع البتروكيماويات لدى دول مجلس التعاون الخليجي عدداً من التحديات، وربما أهمها هي الفجوة الموجودة في مجال الإدارة والقدرات التقنية، وذلك أولاً بسبب عدم حرصها على بناء القدرات الوظيفية بالتوازي مع قيامها برفع قدرتها الإنتاجية خلال السنوات الثلاثين الماضية، وثانياً بسبب اعتمادها على الشركاء الأجانب فيما يخص التكنولوجيا والتسويق. وستضطر الكثير من الشركات في الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة للتعامل مع النقص الحاد في أعداد كل من الخريجين المؤهلين والموظفين ذوي الخبرة، وهي المشكلة التي يمكنها أن تحد من قدرة الصناعة على النمو.

ووفقاً لـ “ماكينزي” من المتوقع أن تقوم السعودية بتدريب ما يقرب من 3 آلاف مهندس كيميائي خلال السنوات السبع الممتدة بين عامي 2015 و2022، في حين أن ألمانيا ستدرب نحو 10 آلاف. هذا الرقم لا يتسق أبداً مع طموح المملكة برفع قدرتها الإنتاجية من البتروكيماويات بنحو 15 مليون طن، حيث إن ألمانيا التي تعتزم تدريب هذا العدد الكبير من المهندسين تنوي رفع قدرتها الإنتاجية بنحو 1.5 مليون طن خلال الفترة الزمنية نفسها.

إن منطقة الشرق الأوسط  تنفذ من المواد الخام الغازية الرخيصة، ولذلك ركزت توسعات صناعة البتروكيماويات في المنطقة على المنتجات البتروكيماوية المعتمدة على النافتا بدلاً من الإيثان كمادة وسيطة، فيما أن الرسالة واضحة، لم يعد بوسع منتجي البتروكيماويات في الشرق الأوسط الاعتماد على المواد الأولية الرخيصة، لذلك يجب عليهم إيجاد طرق أخرى للحفاظ على قدرتهم التنافسية، وعلاوة على ذلك يجب عليهم العمل على تعزيز تميزهم التجاري والتشغيلي والابتكاري.

لم يستثمر منتجو البتروكيماويات من دول مجلس التعاون الخليجي سوى القليل في تعزيز قدراتهم التجارية مثل المبيعات والتسويق وإدارة سلاسل التوريد، وفضلوا بدلاً من ذلك الاعتماد على التجار والوسطاء في نقل وبيع منتجاتهم في الأسواق الرئيسية، وهو يؤدي عادة إلى فقدانهم لما يتراوح من 3 إلى 5 % من قيمة منتجاتهم لصالح الوسطاء.