+A
A-

حلم قديم استيقظ ليدشـن مشروعًا موسيقيًا طموحًا

تبدو نغمات آلة الهارب مثل فراشات تقود المستمع وهو مغمض العينين الى بستان مليء بالمفاجآت الجميلة، وهي تستهل أولى قطع البوم “ألحان بحرينية اوركسترالية” للموسيقار البحريني الدكتور مبارك نجم الذي تم تدشينه في 26 نوفمبر العام 2017.

نغمات آلة الهارب لأغنية “تو النهار” و“تبين عيني” في نسختهما الاوركسترالية، ليست مفاجأة هذا الألبوم المتفرد الوحيدة، بل الاستماع الى الجمل واللوازم الموسيقية التي ألفتها آذان أجيال البحرينيين وشكلت ذائقتهم الفنية على مدى عقود، وقد تحولت الى جمل موسيقية تتداخل فيها آلات النفخ الخشبية الغربية مثل الفلوت، الأوبوا ، الكلارنيت والفاجوت مع آلات النفخ النحاسية مثل البوق الفرنسي والترومبيت والترومبون والتوبا وعائلة الوتريات والبيانو والآلات الايقاعية الاوركسترالية مثل التمباني والتمبورين و غيرها من تلك الآلات الايقاعية الغربية تتحاور  بتناغم وسلاسة مع ايقاع “العاشوري” البحريني  وايقاع “العرضة” وايقاع “فن الصوت” البحريني التقليدي بالمراويس.

تعيد قفلة أغنية “تو النهار” بصوت الكورال المصحوب بآلات النفخ، تذكيرنا بالقفلات الغنائية الأوبرالية، أما الاستهلال السريع والراقص للوتريات في اغنية “مثايل” فيذكرنا على نحو ما بالفالس رقم 2 للروسي ديميتري شوستاكوفيتش. ولمن يعرف الأغنية الاصلية التي بني لحنها على ايقاع العرضة، سيدرك حتما مدى جمال المعالجات اللحنية التي أدخلت على لحنها الأصلي لتحويلها الى القالب الاوركسترالي.

كل اغنياتنا الكلاسيكية في الألبوم، ترسم لنفسها بقالبها الأوركسترالي صورة مفخمة على نحو يجعلنا نعيد اكتشاف الثراء الذي تختزنه، لأن التنويع الموسيقي والجمل واللوازم الموسيقية الأوركسترالية التي أضافها مبارك نجم أظهرت مدى الثراء الذي تختزنه تلك الألحان.

لقد اظهرت ابتكارات نجم اللحنية هنا أن اغنية “كوكو” الشهيرة للفنان الراحل محمد زويد مثلاً، تملك ثراءً لحنياً قد يفوق الوصف لأن نجم كما هو واضح، اكتشف الثراء الذي تختزنه، فأضاف لها وهو يحولها الى قالب اوركسترالي جملاً ولوازم موسيقية وهارمونيات أظهرت هذا الثراء بشكل جلي يدفعنا لأقصى حدود التفاعل مع اللحن يجعلنا نردده لاشعوريا  بصوتنا.

يتكرر الأمر مع سائر اغنيات الألبوم الأخرى، فعلى سبيل المثال، فان إستهلال الوتريات عبر آلات الكمان وآلات التشللو للحن الأساسي لأغنية “كم سنة وشهور”، يكثف من جرعة التأسي التي تنطوي عليها كلمات الأغنية وصوت الراحل محمد علي عبدالله. في المرة الاولى التي استمعت لها خنقتني عبرة، لأن هذا النسيج الهارموني في هذه الطبقة الصوتية الغليظة للتشللو وآلات الكونترباص مع المصاحبة الناعمة الشفافة للوتريات، رسمت في ذهني صورة لأمسية بحرينية شتوية تتكاثف فيها السحب المحمرة بشفق المغيب فيما المدينة تفقد دفء صوت الراحل محمد علي عبدالله رحمه الله.

 

الحلم يستيقظ

"في عمله الاوركسترالي هذا، إختار الدكتور مبارك نجم قائد الموسيقات العسكرية بوزارة الداخلية، عشر اغنيات من كلاسيكيات الاغنية البحرينية ليحولها الى موسيقى  اوركسترالية في تجربة هي الأولى من نوعها في منطقة الخليج العربي.

يقول نجم ان فكرة تحويل الاغنيات البحرينية الى قالب اوركسترالي “كانت فكرة وحلماً قديما يراودني منذ كنت طالباً ببريطانيا أيقظه طلب من شركة طيران الخليج عندما قال لي الرئيس التنفيذي للشركة  السيد ماهر المسلم مرة “اننا شركة وطنية لكن ليس لدينا موسيقى وطنية نبثها على اسطول طائراتنا” مضيفا “انهم طلبوا مني ان اقوم بتأليف موسيقى من الاغنيات البحرينية”.

ويوضح “الفكرة لم تكن واضحة بالنسبة لهم ولم تكن هذه النتيجة هي ما كانوا يتوقعونه، اي ان النتيجة كانت ابعد مما كانوا يتصورونه”.

واشار نجم الى ان الطلب وضعه امام تحدٍ كبير حيث يشير الى “أنني تساءلت.. هل اقوم بإعادة تسجيل الاغنيات كما هي بالقليل من الآلات، أو بإضافة بعض الصولوهات [العزف المنفرد] لآلة عود وناي وايقاع وقانون، أم انني ابادر لتحقيق الحلم الدفين والقديم لدي الذي كنت اتمنى ان تتاح لي الفرصة واقدم اغنياتنا البحرينية في قالب أوركسترالي؟”.

ويضيف:  “لقد قبلت التحدي الاصعب من غير ان يدرك مسؤولي الناقلة الوطنية ان النتيجة ستكون بهذه الصورة”.

وكانت الاغنيات البحرينية في الستينيات التي شهدت ظهور الاغنية البحرينية الحديثة، تؤدى بفرقة محدودة من الالات الموسيقية تضم الات التخت الشرقي مثل العود والقانون والكمان والناي والايقاع، قبل ان تدخل آلات اخرى مثل الاورغن فيها في السبعينيات والثمانينات. وما عدا آلة الفلوت والكلارنيت، لا تستخدم آلات النفخ غالباً في الموسيقى البحرينية والخليجية بشكل عام، لهذا فان تحويل اغنيات بحرينية الى قوالب اوركسترالية يمثل تجربة غير مسبوقة.

وبدت الآلات الإيقاعية البحرينية المحلية والآلات الموسيقية الشرقية كالعود والناي في انسجام تام مع آلات الاوركسترا الغربية مثل الهارب والبيانو وآلات النفخ الخشبية والنحاسية وعائلة الوتريات وهو ما شكل عنصرا اساسيا في الاستقبال الايجابي والاحتفاء الكبير بهذا الألبوم.

وبدا اختيار الاغنيات في هذا الالبوم مدروساً بعناية حيث يمتد السياق الزمني للأغنيات ما بين الستينيات من القرن الماضي وصولاً الى الالفية الثالثة للميلاد. وبهذا النحو، يكون الألبوم موجها لأجيال عديدة من البحرينيين من جيل الستينيات وما قبله وصولا الى جيل الألفية الثالثة للميلاد. أبعد من هذا، فإن اختيار الأغنيات يركز على ما يبدو على اختيار اغنية او اثنتين تمثل أبرز ما في حقبتها الزمنية.

يوضح نجم قائلا “قررت اولا ان اختار اغنيات تمثل مراحل من الاغنية البحرينية بداية من زمن محمد بن فارس وصولا الى العام 2008 بأغنية احمد الهرمي. أغاني محمد بن فارس في الحقيقة تحتاج تناولاً خاصاً ويحتاج مشروعاً قائماً بذاته ومعالجة اعماله بشكل أوركسترالي يحتاج الى تأن ووقت، فاستثنيت محمد بن فارس ورفيقه ضاحي بن وليد وانتقلت الى محمد زويد”.

ويضيف “اخترت لزويد اغنية [“كوكو”] وهي اغنية مشهورة له. الكل يعرف محمد زويد من خلالها لكي تمثل جيل محمد زويد ورفاقه ومرحلتهم، اي يوسف فوني وعبدالله بوشيخة وعلي خالد وبورقبة وعنبر وكل الفنانين من معاصريه. واذا ما تساءلنا لماذا [“كوكو”]، فان الجواب هو ان هذه الاغنية مشهورة وجميلة وتعطيني مساحة وحرية في التعامل معها بشكل اوركسترالي وادخال التنويعات اللحنية عليها. اضافة الى ان هذه الاغنية غالبا ما تقدم بشكل فكاهي وهزلي، فآثرت ان اعيد لها اعتبارها وشيئا من الرصانة”.

يضيف نجم “بعد زويد، تأتي الاغنية البحرينية الحديثة التي يمثلها ابراهيم حبيب واحمد الجميري والمرحوم محمد علي عبدالله، فإخترت لكل واحد منهم اغنية او اثنتين تمثل مرحلة الاغنية البحرينية الحديثة. بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة مبارك نجم وخالد الشيخ. مبارك موجود في العمل ككل واخترت لخالد الشيخ اغنيات جميلة احبها رغم ان خالد لديه الكثير من الاغنيات الجميلة، لكنني اخترت له الاغنيات الثلاث الموجودة في الالبوم”.

واخيراً وفق نجم “انتقلت الى المرحلة الاخيرة وهي التي تمثل فنانين مثل نزار عبدالله واحمد الهرمي فإخترت أغنية [“مثايل”] لكي تمثل هذه مرحلة الألفية الثالثة”.

 

مشروعات مستقبلية

ويبدو ان نجاح هذا الالبوم سيمثل تدشينا لسلسلة من الأعمال الموسيقية في السياق نفسه حسب ما يشير اليه الدكتور نجم الذي يقول ان “هناك مشروع مماثل لتقديم كلاسيكيات بحرينية قدمت منها مقطوعتين في احتفال العيد الوطني الاخير” مضيفا “إن هذا المشروع في حقيقة هو تناول مادة الفلكلور البحريني وتحويلها الى معالجة مؤلفات اوركسترالية”.

ويوضح “اغنيات مثل [توب توب يا بحر] و[يدفوها على السيف] و [واترينبو] سيسمعها الجمهور بمعالجات اوركسترالية اضافة الى مشروعات اخرى لتقديم الاغنيات الخليجية في قوالب أوركسترالية”.

يخلص للقول “اتطلع الى يوم يذهب فيه الخليجيون الى المسارح للاستمتاع بموسيقاهم الخليجية وهي تقدم لهم في قوالب أوركسترالية يشعرون من خلالها بمتعة أكبر بكثير من تلك المتعة التي يشعرون بها عندما يستمعون لموسيقى بيتهوفن وموزارات وتشايكوفيسكي وغيرهم”.

بانتظار نتاجات مبارك نجم الجديدة ضمن مشروع تقديم الكلاسيكيات البحرينية بقوالب أروكسترالية، فمن المؤكد ان هذا العمل سيفتح الباب امام اعمال مماثلة لا في منطقة الخليج فحسب بل في بلدان عربية أخرى.

 

 

لمزيد من الاطلاع، يمكنكم قراءة الملف الكامل الذي أعده الكاتب على موقعه: http://www.themfadhel.com