+A
A-

قياس الأداء يجب أن يشمل كل ما يتصل بالمؤسسة من قريب أو بعيد

غياب العملية تجعل ثبات مستوى الأداء أمرا مستحيلا

 

تنشر “البلاد” على حلقات كتاب نبيل آل محمود “قبل أن تتهاوى”، والذي يتضمن مجموعة دروس عن الممارسات الإدارية المتبعة بالقطاعين العام والخاص. الكتاب يقدم حقائق وممارسات تفاعلية في علمي الاجتماع والسيكولوجيا. ويُعالج تحديات الأداء والإنتاج والإنتاجية والسلوكيات والممارسات الإيجابية والسلبية والأساليب الإدارية المتعددة وآليات قياس الأداء والتنافسية والمخاطر والقيم المؤسسية وأخلاقيات المهنة. ويترك للقارئ مؤشرات الحلول التي تقوده للتوصل إليها من خلال سيناريو الموضوع ذاته؛ وذلك من أجل تدارك ما يمكن تداركه قبل أن تتهاوى، وهو سر عنوان الكتاب.

 

حتمية تنفيذ قياس الأداء لكونه جزءا من إدارة الشركة

تحدد مدته اعتمادًا على حجم المؤسسة ونوع النشاط

لماذا تبدأ بعض المؤسسات العمل بكفاءة عالية ثم يبدأ أداؤها في التدني مع مرور الوقت؟

كيف للإدارة أن تدرك بأن أداء المؤسسة يسير بمستوى ثابت أو بتحسن مستمر أو حتى في انحدار مستمر؟

ضمن دراسة أعدت في 1999 واهتمت بأداء المؤسسات الصناعية المحلية مع التركيز على قطاع المؤسسات المتوسطة والصغيرة، تم من خلالها مقابلة مجموعة من الإداريين الذين يمثلون مؤسساتهم. وقد تركز جزء من الأسئلة فيما إذا كان يتم تنفيذ قياس لأداء المؤسسة، وعن آلية القياس، إلى جانب الدورة الزمنية التي تنفذ فيها عملية القياس، وماهية المعايير التي يتم استخدامها كمؤشرات لأداء افضل أو أسوأ.  وقد عكست نتائج الدراسة الحقائق التالية:

• 36 % من مجموع المؤسسات تنفذ عملية قياس الأداء بالتركيز على مستوى الإنتاج، حجم المبيعات، والمؤشرات المالية كصافي الربح وما شابه. إلا أنه تبيّن أن هذه العملية تتم سنويا فقط.

• 42  % أشاروا إلى اعتمادهم على المؤشرات المالية كأداة لقياس الأداء، والتي تنفذ في نهاية كل سنة إنتاجية. وقد علَّق أحدهم “إذا ما ارتفعت  أرباح المؤسسة، فذاك يعني أن أداءها  جيد.

• 22 % عكسوا عدم استخدام أية أساليب معينة لقياس أداء مؤسساتهم، مما يعني غياب الدافع للوصول إلى أداء أفضل، حيث ذكر أحد المديرين “ نحن ننتج على طلب الزبائن (Make-to-order Policy)، فإذا انخفض الطلب انخفضت معه المبيعات ومن ثم الأرباح السنوية... والعكس صحيح”.

وقد أثبتت المحصلة النهائية للدراسة أن تلك الشريحة من المؤسسات تركز بشكل رئيس على المؤشرات المالية كقياس سنوي لأداء المؤسسة، إلى جانب بعض المؤشرات الأخرى سابقة الذكر، والتي تأتي في المرتبة الثانية. وذلك ما يمثل ضعفا في إدارة تلك المؤسسات على اعتبار ما يلي:

•    أن عملية القياس السنوي للأداء أيا كان صنفه لا يعكس أسلوبا إداريا سليما للمؤسسة، ويعود السبب إلى أنه في حال حدوث مشكلة أو عجز متكرر خلال السنة الإنتاجية لن يكون من الممكن ملاحظته وتصحيحه في حينه ومن ثم يمثل اكتشافه “مفاجأة” في نهاية السنة، الأمر الذي يجعل عملية تقويمه متأخرة جداً.

• التركيز على المؤشرات المالية للمؤسسة في نهاية السنة المالية كقياس للأداء لا يعكس الأداء الأمثل لكل وجه من اوجه الإنتاج، حيث يهمل قضايا عديدة مرتبطة بالإنتاج وخدمات ما بعد البيع وكذلك العامل البشري.

لذلك نؤكد بأن قياس الأداء يجب أن يشمل كل ما يتصل بالمؤسسة من قريب أو بعيد لكونه المؤشر الحقيقي لأداء المؤسسة، والذي يتيح للإدارة اكتشاف نقاط الضعف والعجز وتصحيحها، ومن ثم تحسين الأداء بصورة مستمرة. فهو يعتمد على صنفين رئيسين يحتاجان إلى عملية جمع  بيانات دقيقة، يطلق عليهما “Soft Issues”و”Hard Issues”.

1. “Soft Issues”

هذا النوع من القياس يؤدى على هيئة مسوحات تغطي كل المؤسسة مثل الإدارات وفرق العمل وتكون على شكل استبانات أو مقابلات شخصية، وتشمل آلاتي:

• معنويات الموظفين.

• رضا الموظفين، ورضا الزبائن.

• الاتصال داخل المؤسسة وخارجها.

• اعتزاز منسوبي المؤسسة بالعمل فيها.

• التزام الموظفين بالعمل في مواقعهم.

2. “Hard Issues”

هذا النوع يشمل الأمور المالية وغير المالية ويُنجز على شكل “Checklist”، حيث تشمل الآتي:

•    النوعية: مثل عدد الوحدات الإنتاجية غير الصالحة في كل دفعة إنتاج، عدد شكاوى الزبائن، حجم وكلفة المخلفات... إلخ.

•    السرعة: مثل تغيـّر سرعة تسليم المنتج للزبائن، سرعة الرد على استفسارات الزبائن ...إلخ.

• الالتزام بجدول العمل: مثل نسبة الطلبات المتأخر تسليمها للزبائن مقارنة بالإجمالي، معدّل تأخير استلام المواد الخام من المموّل، نسبة الشحن في الوقت المحدّد من  الإجمالي... إلخ.

• المرونة: مثل الوقت المستهلك لتغيير وظيفة الآلات “Change-over” والتحول من عملية إنتاجية إلى أخرى، الوقت المستهلك لتغيير برنامج الإنتاج... إلخ.

• قدرات العمال: مثل عدد ساعات العمل الفعلية في كل وردية، عدد الوحدات المنتجة في الساعة وفي الوردية أيضا، نسبة استخدام الآلات في العمليات الإنتاجية... إلخ.

• التكلفة: مثل القيمة المضافة للوحدة الإنتاجية، تكلفة التشغيل في الساعة... إلخ.

• المخزون: مثل نسبة مخزون المواد الخام المتبقي لقياس نظام جدولة المواد، نسبة مخزون المنتج النهائي  لقياس دقة التنبأ للسوق... إلخ.

وختاما، نود الإشارة لحتمية تنفيذ قياس الأداء لكونه جزءا من إدارة المؤسسة، وبشكل دوري تحدد مدته الإدارة اعتمادا على أمور عدة منها حجم المؤسسة ونوعية النشاط والإستراتيجية المتبعة وما شابه. فغياب هذه العملية تجعل من ثبات مستوى الأداء في المؤسسة واستمراريته أمرا مستحيلا، الأمر الذي يؤدي إلى استحالة إدارتها بشكل سليم. وقد أكـد ذلـك Louice, C. في ورقته العلمية Analyzing Business Performance حيث قال: “لا يمكن أن تـدير مـا لا يـمكن أن تقيس You can’t manage what you can’t measure”.

 

عقلية متطـورة... إدارة متطـورة... “SWATCH” لإنتاج الساعات مثالا

عالم الصناعة لا يحتمل الروح الانهزامية بل يحتاج دائما إلى أخذ المبادرة

 

يثير دهشتنا منطق بعض رجال الأعمال والمستثمرين المحليين حينما يتحدثون بيأس – ودون تحقق - عن قطاع معين من الصناعات أو عن منتج محدد يجدون أن سوقه محدودة أو متشبعة أو تصعب منافسة الواردات من خلالها، وأنه ليس هناك أي جدوى من إقامة مشروع مماثل حتى لو اختلف وجه من اوجه المنتج كالجودة أو التصميم أو المواد الداخلة في الإنتاج أو السعر أو ما شابه.

ووجدنا من يضع كل جهـده في عمل دراسات جدوى وخطط عمل لمشاريع يرى أنها تمثل أفكارا لمنتجات جديدة سواء كانت تقليدية أو متطورة على اعتبار مبدأ إحلال الواردات وتجنبا للمنافسة ومزاحمة الآخرين. وفي المقابل وجدنا من يركّز اهتمامه في البحث عن دراسات تُعنى بجدوى تقليد صناعات قائمة لمجرد إدراك نجاحها لفترة ما ودون أدنى تفكير في تطويرها. ونادرا ما نرى عقليات تهتم بتطوير منتج قائم بغض النظر عن طبيعته سواء كان مستوردا أو يصنّع محليا. إن تطوير المنتجات أو ما تعارف عليه إداريا بمصطلح Product Development كان ولا يزال السبيل لنجاح ونجاة العديد من المؤسسات (خاصة العالمية منها)، وضمان استمرارها في السوق، بل إنه في الواقع أحد عوامل الفوز بالسوق وهزيمة المنافس؛ كي لا يلحق بركب المؤسسة الناجحة.

إننا حقيقةً نفتقد استيعاب هذا المفهوم بكل جوانبه ومعانيه؛ كي نرتقي بصناعاتنا ونفتح لها أبوابا واسعة، كلما سُدّ منها جانب فتحنا له آخر. أما أن نستسلم للأمر الواقع ونقتنع بما يردده بعض من ينتسب للمضمار الصناعي من عبارات تعكس ضعفا ويأسا شديدين مثل “صعوبة محاكاة المنتج الأوروبي لجودته العالية” أو “استحالة منافسة المنتجات الشرق آسيوية لتدني أسعارها وتدني تكلفة العمالة” إلى آخر ذلك من عبارات استسلامية محبطة.  إن دولا مثل الدول الأوروبية أو الشرق آسيوية لم تدخل عالم المنافسة، إلا بعد أن علمت واستوعبت أفضلياتها التنافسية واستغلتها أفضل استغلال، ومن ثم وجهتها توجيها سليما لتيسير وصولها للأسواق المستهدفة وللزبائن المحتملين، ولم تدع عاملا من عوامل المخاطرة إلا وضمنته التضمين الأمثل كي تتيقن من نجاحها مسبقا.

إن عالم الصناعة لا يحتمل الروح الانهزامية، بل يحتاج دائما لأخذ المبادرة بعد إدراك أوجه المخاطرة، ومن ثم قبول التحدي المقترن باستغلال الموارد التي يتفوق بها المصنّع في بيئته مع حتمية تمييز منتجه بعوامل الفوز بالسوق (Order winners) لمحاكاة منافسيه والتفوق عليهم. وتلك أمثلتها عديدة كالتفرد بتصميم المنتج أو بالمواد الداخلة في الإنتاج أو الجودة أو التواجد الدائم بالسوق (Availability) أو توفير سلسلة واسعة من أصناف المنتج (High product range)...إلخ، كل ذلك حين يتناغم مع السعر التنافسي يكون أداء المنتج متميزاً في الأسواق. إننا دون شك نحتاج في ظل هذه المنافسة المحتدمة إلى التركيز على ما يسمى “بعرض البيع الفريد Unique Selling Proposition (USP)”، حيث يعتبر مخرجا للكثيرين في هذه المعركة إن صح التعبير. وكما يقول أحد الخبراء “إن السوق حرب والمنافس عدو، فإن لم تدرك وتستغل أساليب وفنون الحرب وتتقن استخدامها هزمك عدوك”.

ولتوضيح ما نقصد سنروي تجربة شركة SWATCH السويسرية لإنتاج الساعات عند وقوعها بمأزق مماثل لنرى كيفية خروجها منتصرة بعدم استسلامها وعبر تطوير منتجها وتفردها به على أساس ما يسمى باستراتيجية الـ USP.

في بداية الثمانينيات كانت صناعة الساعات السويسرية قد قاربت على الانتهاء بسبب المنافسة الشرسة من قبل المنتجات رخيصة السعر، لكن عالية الجودة من مصنّعي الساعات بدول الشرق الأقصى مثل سيكو (Seiko) وكاسيو (Casio)، والتي تقريبا طمست الصناعة السويسرية التقليدية آنذاك، ومن أجل حماية استثماراتها أقدمت البنوك السويسرية على تنظيم اندماج (Merger) بين أكبر شركتين بهذا المجال بناء على توجيه من Nicolas Hayek الذي كان يتبوأ آنذاك منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة SWATCH الأم SMH، والتي شُكّلت بعد الدمج. لقد رأى هذا الشخص بعقليته فائدة ومردود صناعة ساعات اليد البلاستيكية (Plastic-cased)، والتي كانت قد طُورت بإحدى الشركتين، وكانت إحدى ميزاتها الأساسية هي إمكان إنتاج كميات عالية بأسعار منخفضة جدا. وقد استُخدمت آلية كوارتز (Quartz) في الساعات البلاستيكية وتم خفض عدد القطع والأجزاء في الساعة إلى 51 قطعة فقط بما يقارب أقل من نصف القطع في الساعات الأخرى. خفض الأجزاء قد سُخّـر ليجعل من الساعات تعمل بأوتوماتيكية تامة (Fully Automated)، مما جعل ساعات SWATCH رخيصة في الإنتاج حتى في سويسرا التي تصنّف واحدة من أعلى معدلات تكلفة الأيدي العاملة في العالم.

التصميم المطوّر، بعض أساليب التسويق المبتكرة، ونجاح العمليات في إنتاج الساعات اقل سعرا من الآخرين ارتقى بالشركة وجلب لها المردود الإيجابي، في بداية الثمانينات كانت نسبة مساهمة السوق لكل الساعات السويسرية نحو 25 %، لكن بعد عشر سنوات من بدء هذه المهمة بلغت نسبة المساهمة أكثر من الضعف، فالقدرة على تقديم ساعات جيدة بأسعار متدنية منح القدرة للساعة لتكون من الكماليات التقليدية السائدة “Fashion accessory”؛ الأمر الذي جعل عمليات الشركة تحصد الفوائد من الإنتاج الكمي العالي، ولكن كان عليها أن تحاكي الزيادة المستمرة في أصناف وتصاميم المنتج، ومن خلال الأتوماتيكية والمعيارية الصارمة (Rigid standardization) لآليـة السـاعة الداخلية، استطاعت الشركة زيادة الأصناف والتشكيلات دون أي تعثر في التكاليف. انه يعتبر نجاح لإدارة العمليات بالشركة في إبقاء تكاليف الإنتاج منخفضة (تكاليف العمالة المباشرة أقل من 7 % من إجمالي تكاليف الإنتاج) مما سهل نجاح SWATCH، وليس ذلك كل شي، فبالرغم من وقوع الشركة في بعض المطبات كعدم التقاء بعض تصاميم الساعات مع الذوق العام للمستهلك وبعض أخطاء التوزيع والتسويق خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن التطوير المتواصل، الابتكار المتجدد، الجودة العالية والكلفة المتدنية جعلت من السهل التغلب على تلك العقبات.

وأخيراً يجدر التنويه إلى أن هذه التجربة الواقعية تحمل بين سطورها عبرا كثيرة ودروسا قيّمة ربما يستفيد منها البعض ليأتي اليوم الذي يتفوق فيه على نفسه وعلى الآخرين... ربما.