+A
A-

طاعة السلطة وأساليب الاعتراض في الفكر الاجتماعي

لابد للبدء في بحث المصطلحات التي سلف الإشارة إليها أن نبدأ في دراسة مفهوم السلطة السياسية، باعتبار أن العدل والظلم والاستبداد والمعارضة ترتبط ارتباطا لا يقبل التجزئة بالسلطة السياسية الحاكمة، وقد بدأنا بدارسة هذه المدرسة ومقارنتها بالمدارس الإسلامية لكونها بحثت في مفهوم السلطة الحاكمة دون أن تتعرض لمفاهيم أخرى كالعدل والظلم وغيره، وهذه المصطلحات سنقوم ببحثها لاحقا وذلك استنادا إلى النتائج التي نتوصل إليها من خلال البحث في مفهوم السلطة السياسية.

يرى أصحاب هذه المدرسة أن القوي على حق، فلا تعترف بشيء اسمه العدل أو عدم العدل، بل تؤمن بأن القانون الوضعي هو قانون عادل طالما أقرته الدولة، ويصبح غير عادل إذا لم يتفق مع أراء الدولة وأهدافها.

فيرى هوبز أن الظلم هو خرق القواعد العامة. فالعدالة هي الطاعة للقوي القادر على أن يجعل نفسه مطاعا.

ف (هوبز) باعتباره من منظري فكرة العقد الاجتماعي، يرى أن الإنسان في الحالة السابقة على تكون الدولة (يتخيل هوبز حالة البشر قبل نشوء الدولة)، ووفقا لتخيله فإن البشر كان كل منهم يبحث عن البقاء وإشباع الرغبات الخاصة بلذات أنانية، مثل (المغنم والمجد)، ولا وجود عنده للأخلاق كما نعرفها اليوم، ولكل واحد الحق الكامل فيما يستطيع الحصول عليه والمحافظة عليه، لا وجود لشيء مثل القانون أو الظلم، والنتيجة الحتمية لذلك هي أن الناس إما أن يكونوا في حالة حرب فعلية مستمرة، أو يكونوا في خوف دائم من يهاجم “ الكل ضد الكل”.

لأن الحرب لا تكمن فقط في القتال، بل تكمن أيضا في الخوف الدائم والاستعداد للصراع فالحرب لا تتمثل في القتال الفعلي بل في الميل للقتال في جميع الأوقات التي لا يكون العكس فيها مضمونا.

ليس هناك معنى للأمان، وليس هناك حافز على الصناعة. الكل في خوف وفقر دائمين. ولابد أن تكون الحياة البشرية “منعزلة، فقيرة، بدائية، وحشية، وقصيرة الأمد”.

عليه فإن هذه الحالة من الخوف تجعل الناس يرغبون بصورة طبيعية في السلام والأمن، والهروب من البؤس والفزع من حالتهم الطبيعية.

وذلك يدفعهم إلى تأسيس دولة تقوم على رضى متبادل، يوافق فيها كل فرد على طاعة أوامر صاحب السيادة، الذي يكون رجلا واحدا وخلفاؤه (النظام الملكي)، أو مجموعة من الناس ((الارستقراطية أو الديموقراطية، وفقًا لحجم المجموعة).

وكان صاحب السيادة في إنجلترا شخصًا واحدًا. وسلطة صاحب السيادة مطلقة، وهو لا يمكن أن يرتكب خطأ يمكن أن يخضع بسببه للمساءلة من الناحية القانونية، فهو ليس مسؤولًا إلا أمام الله وضميره.

ويتعهد الآخرون بطاعته، وهو لم يتعهد لهم بشيء. بل له سلطة سن القوانين، وتعيين القضاة، وإعلان الحرب والسلم، وتوقيع العقوبات، وتحديد دين الدولة.

وجميع رعاياه تطيعه، وإلا كان هناك صراع، وحرب، وعودة إلى بؤس الحالة الطبيعية. ولما كانت الدولة قد تكونت بوصفها مصلحة أنانية فردية، فإن “خضوع الرعايا لصاحب السيادة يجب أن يفهم على أنه يدوم ما دام يملك من القوة المستمرة ما يمكنه من حمايتهم وليس أطول من ذلك”، فإذا فقد قوته وهزمه صاحب سيادة آخر، وخضع له، فإن خضوع رعاياه يتحول إلى المنتصر.

والتوصيف النظري لما جاءت به هذه المدرسة أن القانون هو القانون. وهو يوجد كي يطاع، والتوصيف النظري لهذا السبب هو أن الالتزام هو مفهوم يكمن في فكرة شرعية السلطة. فالقول أن س هو القانون فهذا يعني أن س يجب أن يطاع. وأن عدم طاعة القانون هو خطأ وان العقوبة التي يفرضها القانون لا تحتاج إلى تبرير. ويجب التأكيد على أن الالتزام يستمد من الشرعية القانونية فقط وليس من مضمون القانون وللموضوع تتمة.

بحثنا سابقا ما فكرة العقد الاجتماعي لدى الفيلسوف هوبز، والناظر إلى هذه النظرة التي جاء فيها، نجدها قريبة من بعض ما أتت به بعض المدارس الإسلامية، فنكاد نجد نفس الموقف لدى إمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله الجويني (478-417) الذي كان يعتقد من ناحية أن الإمام نائب عن المسلمين أجمعين.

أو انه نائب عن كافة أهل الإسلام، ويقول ان الاختيار من أهل الحل والعقد، هو المستند المعتقد، والمعمول المعتضد، ومن ناحية أخرى لم يكن يشترط رضاهم في انتخاب الإمام.

وقال: “ إن بايع رجل واحد مرموق كثير الأتباع والأشياع مطاع في قوم، وكانت بيعته تفيد ما أشرنا إليه ((من الشوكة)) انعقدت الإمامة وصحت إمامة من يستولي على السلطة بشوكته حتى إذا لم يكن منتخبا من أحد، فقال: “ من يستبد بالاستيلاء والاستعلاء من غير نصب ممن يصح نصبه، فإذا استظهر المرء بالعدد والعدد، ودعا الناس إلى الطاعة فإن لم يكن في الزمان من يستجمع صفات أهل الاختيار وكان الداعي إلى إتباعه على الكمال المرعي، فإذا استظهر بالقوة وتصدى للإمامة، كان إمام حقا، وهو في حكم العاقد والمعقود له.

وقام الجويني بالاعتراف بحكومة الأمر الواقع، فقال: “ إذا استقل فرد الزمان بعدة لا تصادم، واستطالت يده على الممالك عرضا وطولا، واستتبت الطاعة، وأمكنت الاستطاعة، فقيامه بمصالح أهل الإيمان بالسيف واللسان، كقيام الواحد من أهل الزمان بالموعظة الحسنة باللسان.

وهذا ذات موقف أبي حامد الغزالي الذي يطرح نظرية (الاختيار) ولكنه يعود ليفسرها ويقول بأن المقصود ب: (الاختيار) ليس “ اعتبار كافة الخلق” إنما الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع”. ويبرر ذلك بمراعاة الصفات والشروط في السلاطين تسوفا إلى مزايا المصالح، وتجنب القطع ببطلان الولايات خوفا من بطلان المصالح رأسا، والنظر إلى الأمر الواقع:” بأن الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة، فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الإمام.”

واكتفى الغزالي بتعيين الإمام بواسطة شخص واحد إذا حصلت له الشوكة، واعتبر نجاحه نصبا غيبيا من الله تعالى، ورزقا إلهيا يؤتيه من يشاء. وقال “ إن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرا إلى الطاعة والموالاة. وهذا لا يقدر عليه البشر.”

واعتبر الغزالي السلطة القهرية، إحدى طرق الحكم الثلاثة، إضافة إلى النص والتفويض من رجل ذي شوكة. وقال: “ لو لم يكن بعد وفاة الإمام إلا قرشي واحد مطاع متبع فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق لشوكته وكفايته وكان موصوفا بصفات، قد انعقدت إمامته ووجبت طاعته فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته وفي منازعته إثارة الفتن.

وأضاف:” إن السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته شوكته وعسر خلعه وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له.

وهكذا قسم إبن جماعة طرق الإمامة إلى ثلاث طرق إثنين منها اختياريان وهما بيعة أهل الحل والعقد واستخلاف الامام السابق للاحق، وأضاف: “ وأما الطريق الثالث الذي تنعقد به البيعة القهرية فهو قهر صاحب الشوكة، فإن خلا الوقت عن إمام فتصدى لها من هو ليس من أهلها وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف انعقدت بيعته، ولزمت طاعته، لينظم شمل المسلمين ويجمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الاصح، وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام أخر فقهر الأول بشوكته وجنوده انعزل الأول وصار الثاني إماما لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم، ولذلك قال ابن عمر في أيام الحرة: نحن مع من غلب.”

ومن خلال البحث في هذه الآراء سواء فكرة (هوبز) وأصحاب مدرسة المنظور الوضعي، وأفكار علماء المسلمين الذين سلف وأشرنا إليهم نصل إلى نتيجة معينة وهي أنها كلها أجمعت في أهمية القوة (قوة الحاكم) - (قوة السلطة))قدرتها على القهر) وفي إهمالها إلى حد ما للجوانب الأخرى فالعدالة عندها هي الطاعة للقوي القادر على أن يجعل نفسه مطاعا هذا بتعبير هوبز، وهي تعتبر علماء المسلمين اللذين سلف الإشارة إليهم الطاعة لصاحب الشوكة القادر على قهر الناس بشوكته وجنوده.

ونحن إذ نبحث عن أسباب هذه الآراء، وهل كانت وكما يقول البعض نفاقا لحاكم أو سلطان معين، أو تبريرا لسلطة جائرة، نصل إلى نتيجة مخالفة جدا، من خلال البحث في الظروف الموضوعية لهذه الأفكار.

فالأفكار لا تنتج من واقع مجرد، فهي نتاج واقع موضوعي ومادي للمجتمع لذلك قد نجد فكرة معينة موجودة حاليا ولم توجد في وقت سابق، أو نجدها موجودة في وقت سابق وتلاشت أو انتهت في وقتنا الماثل، فالظروف الموضوعية التي يعيشها المفكر أو العالم في مجتمع معين وفي بيئة معينة تنعكس لابد على تفكيره فتؤدي إلى وجود هذه الفكرة، فالواقع الموضوعي هو الذي يؤثر على الأفكار التي تنتج جراء تراكمات هذا الواقع، لذلك لابد من البحث عن الأسباب التي حدثت بهؤلاء العلماء والمفكرين إلى اتخاذ هذا الاتجاه الحاد وهذا ما سنبحثه في الحلقة القادمة وللموضوع تتمة.

بيَّنا سابقا اتجاه الفلسفة الوضعية (هوبز) وآراء بعض العلماء المسلمين وكان لابد من البحث للواضع الموضوعي الذي عاشه هؤلاء العلماء ذلك أننا إذ نبحث في أسباب الأفكار التي سلف وأشرنا لها، نجد أنها نتاج واقع موضوعي عاش فيه المفكرون والعلماء، فانعكس على تفكيرهم وعلى ما أنتجه من آراء، لذا لابد وقبل الخوض في نقد فكرة معينة أو كيل الاتهامات إليها وإلى من نادى بها ان نبحث في الظروف الموضوعية التي مر بها المفكر أو العالم، لنرى إن كان هنالك مبررات فكرية (وهذا لا يعني موافقتنا عليها أو القول بصحتها) وواقعية هي السبب في ما أنتجه هذا المفكر أو ذاك، ومن خلال البحث في الأفكار التي نادى بها هوبز أو العلماء اللذين عرضنا أفكارهم (كأبي حامد الغزالي - عبدالملك الجويني - إبن جماعة) نجد أن الظروف الموضوعية التي مر بها كل مفكر من هؤلاء المفكرين كانت متقاربة إلى حد ما.

فمثلا هوبز، ولد في إنجلترا عام 1588 وتوفي عام 1679، وكان يقول دائما (أنا والخوف توأمان)، وكان من الأسباب التي جعلت الخوف الدائم يسيطر عليه أنه عاش حياته في فترة عانت فيها إنجلترا من صراعات هائلة منها ما هو ديني (يتصل بالدين والكنيسة) ومنها ما هو سياسي بين البرلمان والملك، وعلى ذلك فقد كانت غاية فكره هي تحقيق الأمن والسلام داخل المجتمع.

وبالبحث في حياة الإمام الغزالي وموقفه اتجاه السلطة فإن خير كتاب يعطينا صورة لموقف الإمام الغزالي من عصره ومن الحاكم (السلطة) الذي عاصره وهو الخليفة المستظهر بالله هو ما ورد في كتابه “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية”، والباب التاسع من الكتاب خصصه الغزالي بأكمله لإقامة البراهين الشرعية على أن الإمام الحق القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته هو الإمام المستظهر، كما بيَّن أنه يجب على علماء الدهر الفتوى على البت والقطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة وأنه خليفة الله على الخلق وأن طاعته على جميع الخلق فرض، وهذا الباب يمتد من الصفحة 169 إلى الصفحة 225، وهو من أوله إلى آخره دعوة لطاعة المستظهر وللالتفاف حول منصب الخلافة، وقد أورد صفات الإمام وواجباته السياسية والدينية.

ونلاحظ أن الإمام الغزالي رمى بثقله الفكري والثقافي والعقائدي لدعم مشروعية الخلافة العباسية والخليفة المستظهر وذلك لخشيته من خطر الفاطميين الذين أرادوا إسقاط المرجعية العباسية وتثبيت الشرعية الفاطمية تحت شعار الانتساب لأهل البيت فكرًا ونسبًا.

وعلم الغزالي أنه إذا تمَّ هذا الأمر فإن في ذلك ضياع الدولة السنية، لذلك رمى بثقله للحفاظ على الشرعية السنية العباسية أمام المد الباطني.

لذا كان موقفه هو كرده فعل لظروف موضوعية نشأت وتبلورت وتطورت خلال مراحل حياته.

أما ابن جماعة فحياته المديدة جعلته معاصراً لأحداث عديدة، فقد شهد سقوط دولة بني العباس في بغداد على أيدي المغول، ومرحلة التراجع الصليبي، وغروب شمس بني أيوب عن مصر والشام، وقيام حكم المماليك فيهما.. وما تبع ذلك من اصطراع على السلطة.