العدد 5670
الثلاثاء 23 أبريل 2024
banner
نوح الجيده
نوح الجيده
الراحلون
الثلاثاء 26 يوليو 2022

أن تعيش في وطنٍ تحبُّه، ويختلط فيه دمك بأرضه سنين طويلة، يرسم سعيك في "فرجانه" طبعاتٍ فوق خطواتِ السابقين، حتّى يقولون: "مرّ وهذا الأثر" ويكفي من الأثر أحيانًا دلالته على المسير كما تصفه بساطة الأعرابي، دون الحاجة إلى ارتباطه بوصفة النجاح السحرية التي يصفُ معاييرها عالمنا الحديث.

فالأرض تأخذ منك وتعطيك، وتصنع ذكرياتك التي تسقيها القصص والرفاق والليالي الطوال، هذا ما أشار إليه قُصَيٌّ وهو يودّع البحرين بعد أكثر من عقد ونصفٍ قضاها متغرّبًا عن وطنه الأمّ، زاد عليها أسبوعًا حافلًا بالدموع كان يهرب فيه من العناق الأخير، ردّ عليه أبوه بالمثل عندما رفض إيصاله للمطار فرارًا من لحظة الوداع ومشاعر التخلّي والفقدان.

أذكر لمّا قرر زميلي المغربي الرحيل بعد اثني عشر عامًا من التعرّض لهواء المحرّق الساحر، اتصلتُ أودّعه قبل إقلاع الطائرة، وكان حفيظٌ هذا جميل الصوت مولعًا بالفلكلور البحريني الذي غنّى كثيرًا منه على مسرح الجامعة، يخبرني أنّه من شدّة تعلّقه ما زال يدندن: "محدن عرفني فيج" بلكنته المغربية في شوارع ألمانيا.

وأعود بذاكرتي لصديق الابتدائية حازم ونحن نلعب بالقرب من مجمعهم السكني في منطقة جرداب، وقد ترك البحرين بعدما عاش معنا طفولته وبداية مراهقته، لا أذكر صراحةً كيف ودّعتُه حينها، لكنه يخبرني عن صعوبة تكوين صداقاتٍ في بلدٍ ما ثمّ تتركها بين عشيّةٍ وضحاها، يقول لي هذا الكلام بعدما عاش في خمسة بلدانٍ متفرقةٍ منذ لقائنا الأول.

أسرد هذه القصص تزامنًا مع نفادِ أوراق رزنامة التاريخ الهجري، عندما وقف صاحب الهجرة الأعظم يخاطب دياره التي عاش فيها ثلاثةً وخمسين عامًا: "ما أطيبكِ من بلدٍ وأَحَبَّكِ إليّ" حتّى يعرف الواحد منّا أن للأرضِ سطوةٌ على قلب الإنسان، وأن في وداعها فراقًا لا تغني عنه عولمة هذا الزمان، ومع هذا فإن للأيام الجميلة عليك حقًّا، فلا تكن أنت والزمن والغربة على الراحلين من حولك.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية