كليلة ودمنة
تأليف حفل ببديع بيان في فن أدب روائي يستثير الخيال وتتوالد فيه قصص تتابع على لسان طير وحيوان، باسلوب سهل رشيق حواري، يخلو من الإملال، وما تبرح الفكاهة لتتخلل مضامينه. هذا الكتاب توج فيه عبدالله ابن المقفع (106- 142)هـ مكنون قريحته لمحاكاة مجازية عن ما يدور بين البشر، كان ذاك في عهد عباسي زهت فيه التآليف، وقد أثار الكتاب الدارسين ليُترجم الى عديد لغات.
حكاية الإنسان مع الدنيا
هي للمتأمل ترسو في باطنها رغائب وآفات، وفيها معاني وعظات. والدنيا في اللغة والاصطلاح هي اسم لهذه الحياة لبُعد الآخرة عنها وهي نقيض الآخرة، ومزيد معنى لوصفها اذا قيل الجمرة الدنيا في الحج أي القريبة إلى منى. وكذلك السماء الدنيا لقربها من ساكني الأرض، ودرجة السلم الدنيا اي الاولى. ومن هذا يتشكل معنى الدنيا لدنوها ولأنها دنت كمثل الآخرة تأخرت. وكذلك الدنيا هي دار استخلاف وتعمير وتشمير للعيش والسلام وتآخي بني الإنسان، وحفظ الأرواح والأبدان. والدنيا فيها إيمان وتمني حسنات، وهذا اوصي به الرحمن بالمتلو من القرآن؛ اللهم آتنا في الدنيا حسنة.
هنالك دنيا
تاهت فيها؛ قيم واخلاق، وظلم وفساد، وتسلط ونفوذ، وكراهية وأحقاد، وخير وشر، ورغائب ومكاره، وحق وباطل. والبشر منهم يريد الدنيا ولا يريد الآخره. وآخرون يريدون الدنيا والآخره. والمفلحون هم من وصفهم القران؛
"وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ".
كليلة ودمنة وحكاية الإنسان في الدنيا
ذكر وصفها ابن المقفع في كتابه المذكور التي سننقلها بتصرف. وهي ان الإنسان في دنياه كحال من تدلّى ببئر وهو معلق بغصنين على فوهة ذلك البئر، اي في سمائه. ورجلاه وطئت على شئ من طيِّ البئر، وهو يرقب بنظره متعلقا وجلا، فاذا حياتٌ اربعٌ في ثقوب طيّ البئر كُلهن اخرجن رؤوسهن من احجارهنَّ. وفي ظل هذا المشهد المرعب ينظر ذلك الإنسان تحته فاذا في قعر البئر تنينٌ فاتحٌ فاهُ منتظرٌ له ان يقع فيأخذهُ.
تمالك هذا الإنسان المُعلق فزع وهلع يتعدى الوصف، ولاكتمال صورة الحدث حين يرفع هذا المفزوع بصره الى الغصنين ويكرر نظره في أصل تثبيتهما اي مكان ربط الغصنين فيرى انهما مربوطتين بحبل، وهنالك جرذين لونهما اسود وابيض في كل طرف لهذين الغصنين يقرضن تلك الحبال. بهذا المشهد ارتمت تراجيديا حزينة لهذا الانسان وهو مُعلق. عند ذاك ابصر خلية فيها عسل قريبة لمتناول يده فذاق العسل فطاب له وشغلتهُ حلاوته، بل إِلْتَهى في غمرة لذة طعم العسل فخف الهلع عنده، وتناسى برهة كيفية الخلاص رغم ان الهول يأخذ اللب لان رجليه عند الحيات الأربع وهو لا يدرى متى يُلدغ من الحيات، وكذلك لا يعرف متى يقطع احد الجرذين حبل الغصن الذي تعلق به من ان يقع، ولا يدرك ايضا متى يسقط في قعر البئر الذي فيه التنين. هذه المجاهيل التي هو فيها لم تعطي ذلك الإنسان الفرصة بل تم ما هو متوقع فُجَاءَة فانقطع الغصنين فوقع في فم التنين فهلك.
الرمزية والمجاز في الحكاية
هي وصف الدنيا وتشبيهها ببئر مملوء بآفات ورغائب، وهذه الدنيا تتناوشها وتحاوطها امور هي كالتالي؛
الحيات الأربع كناية عن الأمراض ومسبباتها، والعرب يُعرفوها بالدم والبلغم والصفراء والسوداء فمتى هاج احدها كانت كحمى الأفاعي والسم المميت.
والغصنين
هما الأجل الذي له حين. والجرذين الاسودِ والأبيض هما الليل والنهار،
والتنين المصير والخاتمه التي لا تُعلم وكل هذه آفات ومكاره.
والمنحلة
التي فيها العسل هي ما يراه ويتذوقه الإنسان من حلاوة؛ اي ما يطعمه ويشربه ويسمعه ويشمه ويلمسه ويتشغال به في عمره وكل هذه رغائب دنيويه.
هذه الآفات والرغائب
كُلها في الدنيا ولهذا يُبني على هذا الفهم ان الدنيا الدانية احيانا تكون؛
كالماء المالح الذي لا يزدادُ شاربهُ شرباً الا زاده عطشاً، وكالعظم الذي يِصِيبهُ الكلبُ فيجدُ فيه ريح لحم فلا يزالُ يطلبُ ذلك اللحم حتى يُدْميَ فاه ولا ينالُ شيئاً مما طلب، وكالحدأةِ
التي تظُفَرُ بالبَضْعَةِ(قطعة)من اللحم فيجتمع عليها الطيرُ فلا تزالُ تدورُ وتدأبُ حتى تُعيي وتعجز فإذا تعبتْ ألقتْ ما معها، وكالكوزِ من العسل
الذي في أسفله السمُّ الذي يُذاقُ منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخِرُهُ موتٌ زُعافٌ، وكأحلامِ النائم الذي يفرحُ بها الإنسان في نومِهِ ثم يذهبُ بغتةً ويرجعُ الظلامُ، وكدودةِ القزُ التي تنسجُ نهاراً وليلاً وهلكت وسط نسيجهَا لانها كلما زادتْ منه نسجَاًزادَ استحكاماً ومنعًاً لها من الخروج.
ويبقى خلود الدعاء القراني
يكافئ ذلك الانسان الموفق الذي يعمر دنياه ويبذل مسعاه بالهداية والخير والعطاء، ويبث قيمة مع بني الإنسان وهو يرتل؛ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |