أعطت سياسة العقوبات والضغوط المالية والاقتصادية التي تبنتها واشنطن في السنوات الأخيرة زخما جديدا قويا للمناقشات حول احتمالات إنشاء نظام مالي مستقل عنها "الولايات المتحدة"؛ تبدي روسيا والصين والهند وإيران وتركيا اهتمامًا متزايدًا بهذه القضية، وكثف الاتحاد الأوروبي عمله نحو تطوير طرق للتحايل على الهيمنة المالية الأمريكية والعقوبات، حيث تم إنشاء نظام مستقل للتسويات المالية، وصندوق للنقد الأوروبي تودع فيه الدول الأعضاء في الجماعة الأوروبية احتياطات لتكوين صندوق موارد يهدف لتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف وتمويل موازين المدفوعات دعما للوحدة النقدية الأوروبية الكاملة المرتقبة، وهو نظير لصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى أدوات مالية "مستقلة تمامًا" عن الولايات المتحدة. فما مدى واقعية مثل هذا الاحتمال في المستقبل المنظور؟
منذ ظهور مفهوم النقود العالمية، كانت العملة العالمية الرائدة دائمًا عملة واحدة: الغيلدر الهولندي أولاً، ثم الجنيه الإسترليني البريطاني، ثم الدولار الأمريكي. عند تكوين احتياطيات الدولة أو المحافظ الخاصة، يمكن للمستثمرين الاختيار بين الدولار والوحدات النقدية الأخرى الأقل قوة. في الواقع، لم يكن هناك بديل حقيقي للدولار. أيضا في وقت من الأوقات حاولت ألمانيا واليابان تحدي الدولار، وحاولت دول الاتحاد الأوروبي مرارًا وتكرارًا إدخال عملة موحدة، لكن ذلك حدث فقط في مطلع القرن.
إن الصعود السريع للصين مذهل، لكن النظام المالي للبلاد لم يواكب نمو الاقتصاد حتى الآن، وسعر صرف اليوان يفتقر إلى المرونة. ومع ذلك، بعد نتائج الأزمة المالية العالمية لعام 2008، اعتبر الخبراء إمكانية تنسيق السياسة النقدية بين مراكز العملات الرائدة في العالم باعتبارها السيناريو الأكثر قبولًا للجميع. ولكن بعد مجي ترامب إلى السلطة، ومن الواضح أنه منبهر بفكرة إعادة أمريكا إلى "الإدارة الفردية" في التمويل العالمي. ومع ذلك، فإن "الأساليب" التي استخدمها لهذا الغرض فقط تشجع رغبة عدد متزايد من رعايا الاقتصاد العالمي لتوسيع حرية الاختيار والمنافسة في النظام النقدي الدولي.
حتى في بداية هذا القرن، كانت الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيسي الوحيد في سوق الصرف الأجنبي العالمي. ومع ذلك، على مدى السنوات العشرين الماضية ظلت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية تتراجع باطّراد؛ وفقًا لمسح أجراه البنك المركزي: "لا يزال الدولار هو العملة الاحتياطية في العالم، لكن قيادته اهتزت بشكل كبير."
أيضا يسجل صندوق النقد الدولي اتجاهًا مشابهًا في مراجعته للاتجاهات العالمية، فهناك تنوع في الاحتياطيات وأصبحت الأصول الدولارية للبنوك المركزية في العالم أصغر كل عام. يشغل اليورو والين الياباني واليوان الصيني مكان العملة الأمريكية.
هل يكفي هذا لظهور نظام دفع بديل؟ لا يزال الدولار يمتلك حصة كبيرة من الاستثمارات الرأسمالية والتجارة العالمية -بما في ذلك النفط والغاز والمعادن- في أكثر من عشرين دولة، يتم ربط سعر صرف العملة الوطنية بشكل صارم بالدولار. وتحتفظ واشنطن بدورها كمركز الأعصاب الرئيسي للاقتصاد العالمي، حيث أن معظم الشركات الكبيرة والمتوسطة الحجم في العالم لها مصالح كبيرة في الولايات المتحدة. تعمل فروعهم هناك، ويتم تداول أسهمهم في بورصة نيويورك. هناك وجهة نظر مفادها أن الذهب يمكن أن يصبح أساس نظام تسوية بديل للدولار، يرى المتفائلون أن الذهب هو العملة "الأصعب" في العالم. وأسعار الذهب هي أفضل حماية متاحة ضد التضخم وتقلبات الدولار. وفي الوقت نفسه، يرى المتشائمون أن الذهب مثلا "لا يحل مسألة الالتفاف على العقوبات". كما تظهر أحداث العقود الأخيرة، فإن التهديد بفرض عقوبات على المشترين المحتملين للذهب "السيئ" يمكن أن يصبح عقبة كبيرة أمام التعاملات مع هذا الأصل. وإذا لم يتمكن البنك المركزي من تحويل الذهب إلى عملة، فإنه يتحول إلى "معدن لا قيمة له".
في الوقت نفسه، وفقًا لمراقبين غربيين، فإن إمكانات اليوان كبديل عالمي للدولار ستكون محدودة طالما أن السلطات المالية في جمهورية الصين الشعبية تحافظ على القيود الحالية على حركة رأس المال. وعلى وجه الخصوص على تصدير رأس المال من البلاد للشركات المحلية. من ناحية أخرى، وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فسوف يتفوق الاقتصاد الصيني عاجلاً أم آجلاً على الاقتصاد الأمريكي، ليس فقط من حيث تعادل القوة الشرائية، ولكن أيضًا من حيث سعر الصرف الاسمي. في مثل هذه الحالة، "سيكون من الغريب" إذا لم يصل اليوان إلى مستوى جديد كعملة احتياطية ووسيلة للتسويات الدولية.
وقد جلب اليورو بدوره بالفعل تغييرات مهمة معه. فحتى الآن، قدم اليورو مساهمة كبيرة في إضعاف الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي. ووفقًا للمفوضية الأوروبية، فإن خمس احتياطيات النقد الأجنبي في العالم مقومة بالعملة الأوروبية الموحدة. "يستخدمه 340 مليون مواطن كل يوم، 60 دولة ومنطقة تربط عملتهم بها بطريقة أو بأخرى." وقد أصبح الاتحاد الأوروبي أكثر استقلالية في سياسته الاقتصادية، حيث أصبحت أسعار الفائدة على القروض طويلة الأجل أقل اعتمادًا على القروض الأمريكية.
وعلى الرغم من عدم وجود أي من الاتحادات الاقتصادية الحالية لديها نظام مالي مماثل للنظام الأمريكي، إلا أنه يتم بالفعل تشكيل آليات تسمح بعمليات تجارية فعالة مع الشركات والبلدان التي تخضع لتأثير العقوبات الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، قد يتطور النظام المالي العالمي بمرور الوقت "بشكل طبيعي" نحو عدة مناطق عملات مستقلة نسبيًا وهي: الدولار واليورو واليوان. وقد تحدث البنك الدولي عن مثل هذا السيناريو، على وجه الخصوص.
داخل مناطق العملات، ستكون البلدان قادرة على اتباع سياسة نقدية منسقة ومواجهة تقلبات السوق بشكل مشترك. ومن الممكن أن يرتكز عالم المستقبل على مثل هذا التوازن للقوى. ومع ذلك، ستنشأ منافسة قوية حتمًا بين المناطق، والتي ستصبح اختبارًا للقوة لجميع مناطق العملات الكلية.
أما الآن وبعد تحول الصين إلى أكبر اقتصاد في المنطقة وثاني اقتصاد في العالم، أصبحت قضية التفاعل بين اقتصاديات منطقة آسيا والمحيط الهادئ واليوان الصيني ذات أهمية متزايدة. يواصل الخبراء الغربيون التشكيك في استقرار النظام المصرفي الصيني. كما ينتقدون القيود التي سبق ذكرها على حركة رأس المال. قد يصبح مستوى الثقة بين عدد من الدول الرائدة في المنطقة وبكين مشكلة أيضًا في إنشاء نظام دفع مشترك.
سيتطلب إنشاء نظام مالي دولي بدون مشاركة الولايات المتحدة جهودًا سياسية وتنظيمية واسعة النطاق ومستهلكة للوقت وتكاليف مالية ضخمة. لذلك، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بشكل مسؤول بالتوقيت الدقيق لتنفيذ مثل هذا المشروع. ومن الضروري منع تشكيل نظام دفع بديل للدولار من إثارة تقلبات في أسعار الصرف و "نقل فوضوي لرأس المال" من عملة احتياطية إلى أخرى والعكس صحيح. هناك شيء واحد مؤكد: كلما دمرت واشنطن بشغف "قواعد اللعبة" الراسخة، سيكون الدعم أقوى لنظام مالي عالمي بديل للدولار.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |