العدد 6035
الأربعاء 23 أبريل 2025
خربشة ومغزى.. "الأندلس، أُنْمُوذج حضاري للتعايش"
الأحد 29 أكتوبر 2023

الأندلس أُنموذج حضاري 
للتعايش فيه دروس للأمم نافع، الأندلس عُرفت بإرث إنساني ممتد اضاء ما حوله، عطاءه معرفي وقيمي، علوم وصنائع وزراعة وحِرف، وفنون لها ابتدار وإتقان، هكذا بصمتها في قرون عوالي لها، أمتد ذكره ليومنا. قادة عرب مسلمين حكموها، وذابت في منهحيتهم اعراق وديانات، وتم تجانس وتعايش بين مسلمين ونصارى ويهود. تاريخ تحكيه أثار متبقية في اسبانيا، ومتاحف في العالم منتشرة، وكتب ومخطوطات حافزة للباحثين، بعضه أُستحوذ عليه في ارفف مكتبات اوربية منه مسروق وآخر مُشترى. دير الاسكوريال بمدريد، المكتبة الوطنية في باريس، مكتبة ستراسبورج مكتبة المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية، مكتبة بلدية افينيون، مكتبة الجمعية الآسيوية، المكتبة البريطانية، وكلُّ هذه ما هو إلا غيض من فيض، حتى مكتبات تركيا وأميركا ضمت كتب ومخطوطات تراثنا العربي الإسلامي. 

زمن كانت فيه أوروبا 
حينها تُوصف في عصور وسطى او مظلمة Dark Ages ، لا معارف عابرة للأمم او صنائع وتميز حضاري، قرون كانت في مستنقع كهنوتية، وتخاصم طوائف دينية، واليهود طالهم اقصاء وطرد وتهجير لاسباب كثير منها يتحملوه. امريكا لم تولد بعد ولكنها بعد زمن تكونت بأرض جديدة بعيدة عن أوروبا بعصابات وهجرات توالت، اهلكوا فيها من أسموهم هنود حمر سكان اصليون ، إباده طالتهم حتى جواميسهم وارضهم لم تسلم من المستعمر الجديد.
وإذا سألت عما فعلوه الغربيون في قرى افريقيا لتعمير ارضهم الجديدة، تشيب له الولدان احتراف اختطاف واستعباد غير مسبوق. تاريخ مضى مظلم يعاود بجيناته عند بعض ساساتهم واحزابهم ونُخبهم حتى وإن اختبئ زمنا. كبرياء واستكبار وتسلط، إرث اوروبا الاستعماري القديم والحديث لا يُغطى بمنخل ولا يطهره ماء الأرض مهما بلغ.

مقاربة الاندلس باوروبا تاريخيا 
لا مقاربة فيه وهم يعلمون ذلك، وعقلائهم من مؤرخين وباحثين بسطوا تآليف موضوعية الوصف والتحليل. وفي زماننا تطل علينا منصات التواصل بتنوعها ذكر الأندلس وتراثها وأثارها، مضامين جاذبة تقتفي مفاهيم التعايش والسلمية، ولا غرابة أن دولة الإمارات العربية المُتحدة اطلقت مبادرة "الأنْدَلُس .. تاريخ وحضارة"، بالشراكة مع مملكة إسبانيا، وبتنظيم من مركز جامع الشيخ زايد الكبير والأرشيف والمكتبة الوطنية. مبادرة فعالياتها ستة أشهر عن حضارة الأندلس الثقافية والفنية، والأثر العربي الرائد الذي أسس ثقافة الحوار والتسامح وقيم الانفتاح والتعايش. البرامج على مسرح الدولتين ومشاركة المختصين لتُعرّف الأجيال على تاريخ عربي ساد تضافر فيه تنوع إثني وديني، نموذجه متفرد وصفحة مُشرقة أثرت الحضارة الإنسانية.

الحراك الحالي 
في التبادل المعرفي والاحتفاء بماضي بالأندلس، تدفع الى زوايا تاريخ ما حصل في الأندلس بعد الفتح، الذي له سياق اثمر وامتد، وصداه يتكرر الى اليوم في محافل دولية وبحثية. والمقال فيه بعض عناصر كان لها جَلْجَلَة معرفية، وهي ثلاث كالتالي؛
الأولى
أن القاده الفاتحين بعد دخولهم الأندلس التزموا نسق يبين اسلوبهم عبر عقد واضح في التعايش مثلا؛ "معاهدة أريولة" عُقدت في مدينة أريولة شرق الاندلس في رجب 94هـ بين عبد العزيز بن موسى بن نصير أحد القادة العرب والقوط الغربيين من أهل كورة تدمير وهي فرضة مدينة منسية ترسي بها المراكب. ترجع أهمية هذه المعاهدة لكونها مثال على معاملة المسلمين لغيرهم، وفيها نجح المسلمون في ضم تلك المنطقة من الأندلس، تحديدا مدن أريولة وبلنتلة ولقنت ومولة وإيّة وإلش ولورقة بالوسائل السلمية. نصت المعاهدة في حرية ممارسة الشعائر الدينية. ولهذا تذكر المرويات ان بعض أهل الأندلس المسيحيين استجاب ورحّب بالفاتحين عربا وبربرا، وكذلك اليهود استبشروا خيرا بقدوم المسلمين حيث سئموا من اضطهاد طالهم آنذاك. هذا السلوك مع الزمن أثر في دخول كثير من الأسبان في دين الله ساهموا ببناء حضارة ونشر العُلوم.
الثانية
المسيحييًن بعد الفتح تقبلوا وتأثروا، تذكر ذلك المؤرّخة إلاسبانية في جامعة برشلونة "دولوروس برامون"؛ أن المسلمين ليسوا غزاة، وأن الأسبان وهم السكان الأصليون كانوا هم نواة دولة الإسلام بالأندلس، وبيّنت أن المسلمين الفاتحين لم يكرهوا الناس على الإسلام، بل دخلوه مقتنعين وعن طيب خاطر. كان هذا في حوار أجرته وكالة EFE الإسبانية مع هذه المؤرخة القطلونية بتاريخ 11نونبر 2007، وقد ترجم هذا نقلا عن موقع ويب إسلام الخاص بالجماعة الإسلامية الاسبانية عنوان المقال"مؤرخة تعتبر أن الوصول الاسلامي لأسبانيا في القرن الثامن لم يكن غزوا". نص المقال؛
"تَعتبر دولوروس برامون Dolors Bramon أن قضية الأسلمة خلال القرن الثامن الميلادي "لم تكن قط غزوا" بما أن السكان الأصليين الذين كانوا الغالبية العظمى"تحمّسوا وانخرطوا بهذه الحضارة التي كانت متفوقة آنذاك". أكّدت برامون بالحديث أنّه "لما وصل العرب في القرن الثامن كانت النسبة غير متكافئة وانه لولا اعتمادهم على مساعدة السكان الذين يقطنون المنطقة لما  استطاع الإسلام الانتصار". وننقل بتصرف واختصار ما قَالَت "لم يكن هناك غزو و لم تكن بعده حرب استرداد (reconquista)، لكن كان قدوم أناس أصحاب ثقافة متفوقة آنذاك تحمّس لها السكان المحلّيون وانخرطوا فيها ليس فقط من وجهة نظر ثقافية فقط بل حتى من الناحية الدينية. وبخصوص الإرث الاسلامي بيّنت برامون أن "بقايا هذا الوجود كانت ستكون غزيرة لولا حدوث مجازر محاكم التفتيش"، في القرن الخامس عشر تأسست هذه المؤسسة لقمع المنشقين عن الملوك الكاثوليك، وانطلاقا من هنا عمل السكان الأصليون على إخفاء و تورية كل مظهر يعود لهذا الماضي الإسلامي لما فيه من تهديد للحياة. وأكّدت بتعبير انه "يمكننا القول أن العديد من أسلافنا كانوا مسلمين، وهذا لا يعني أن دمهم عربي لأن العرب جاءوا بعدد قليل جدا". ثم لخّصت برامون بأنه إذا كانت البقايا المعمارية قليلة بسبب استعمالها فيما بعد كمنشآت عسكرية وبصعوبة نعثر على حائط خندق أو سور، وإذا كان التأثير الثقافي تمّ إخفاءه بسبب الخوف. فإن الأثر المعجمي (اللغوي) استمر في كلمات مثلا arroz الأرز،  (Taronja (naranja بالقطلانية) البرتقال وGarbino القربة (الوعاء الجلدي) ولم تستطع محاكم التفتيش منعه.

ميدان آخر تأثر بهذا الماضي
هو الطبخ فقد استمر هذا الأثر الأندلسي عبر مواد كالحلوى والكسكس الذي انشقت منه أكلة البايلا Paella، واستعمال التّوابل بالتحديد في كُتابيَّ القرون الوسطى القطلونية، وهما أقدم كتب عن الطبخ في أوربا ككتاب Llibre del Coch سنة 1490م. كذلك نجد أن استعمال التوابل كان منتشرا. وختمت برامون؛ لن نجد أبدا مثل الحمراء أو جامع قرطبة لكن الاحتكاك اللغوي كان مهما لأكثر من 900 سنة، وترك أثارا في اللغة القطلانية". مصدر المقال : http://identidadandaluza.wordpress.com/2007/11/13/664/
 
الثالثة
مفهوم التسامح في الاندلس كان من نهج الحكام والولاة تجاه المستعربين، وذاك ضمن نظام اجتماعي وقضائي تضمن اجتهادات يقدمها الفقهاء لاحترام تقاليد وأعراف المسيحيين واليهود والمستعربين بالأندلس. حيث تم تخصيص مقابر خاصة تمشيا مع عوائدهم وتقاليدهم في دفن موتاهم. ولم يُمنع النصارى من تناول الخمور كما سمح لهم باستغلال المرافق الاجتماعية الضرورية. إذ تنص إحدى فتاوى ابن رُشْد على عدم منعهم من استقاء المياه مع المسلمين من الصهاريج. بل سمح لهم بالخروج مع المسلمين في صلاة الاستسقاء. وكل هذه القرائن تعكس مدى التعايش المشترك بين شعوب الديانات الثلاث بالأندلس.

الوجه الثاني 
لهذا التعايش الاجتماعي المبكر فيتمثل في ظاهرة الزواج بين العرب الفاتحين والنساء الاسبانيات مما أدى الى تكوين عائلات وبيوتات بفضل هذا الامتزاج. هذه البيوتات المولدية تشكلت من التزاوج والمصاهرة بين الجنسين العربي والاسباني كانت مدخلا لتعايش اجتماعي وحضاري مشترك أكثر منه غزوا عسكريا. تحفل المصادر التاريخية بذكر أخبار متفرقة عن نماذج من الزواج العربي والإسباني. ومع مرور الزمن زاد إيقاع هذا التزاوج العربي - الاسباني سرعة وشمولا حتى صار الموثقون والعدول يخصصون فصولا من كتبهم لكتابة صيغ نموذجية لعقود زواج  المسلمين بالكتابيات. وقد أفرز هذا الزواج المختلط جنسا يحمل الدم العربي - الاسباني وهو المعروف بجنس المولدين.

وكان من نتائج تجذر أواصر الحضارة المشتركة على المستوى الاجتماعي أن تأسست عادات وتقاليد مشتركة قوية،  لدرجة جعلت بعض الباحثين يتحدثون عن "أسبنة" للعناصر الإثنية العربية، وانعكس هذا الذوبان في النسيج الاجتماعي في مشاركة مسلمي الأندلس إخوانهم المسيحيين في معظم احتفالاتهم الدينيّة، وهي مشاركة روحية أفرزتها قرون عديدة من التعايش. وكذلك حضور الاحتفالات والاعياد الاسلاميه، وعيد المسيح و عيد سان خَوَّان، والتحلي بأجمل الأزياء في هذه الأعياد واستضافة الأصدقاء والأحباب لقضاء أجواء الليل في الاحتفال والسمر، والموائد تغص بأصناف الحلويات وشتى المأكولات.

كلُّ ما سبق هي اطياف ماضي تألق، ولا زعم انه خالي من بعض فعل بشري سواء من حكام وولاة او من الرعية أنفسهم خلال الحكم الممتد لسبعة قرون، من حصول مظالم او إقصاء يطال الجميع، وهذا لا تسلم منه اي أمة او حضارة. 

ختاما 
تاريخ لا يُنسى وهو حيّ في ذاكرة الاجيال، وملهم لتكرار العرب أن يشكلو ايقونة اخرى في النهضة والتنمية، والتعايش الحضاري السلمي مع الغير، ضمن تبادل المصالح والتعاون الإنساني. 

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .