قراءة الصمت، ولذائذ التنزَّه في الكُتب يدرك معناه من مارسه بشغف، لأن القراءة بمثابة الحوار مع عقول من كتبها. ومن قرأ تدبرا تملئه نصوص فيها افكار ومعارف، تضفي عليه فرحاً وحبوراً. مثل هذه القراءة تُكوّن لذة فهم لتعبير الكاتب شبيهة بحلم فيه تجسيد حواس ومعالم تؤرشف بالذاكره. وهكذا إذا طال تأمل القراءة، تُغرق صاحبها موجات تَدفق فيه أُنس عفوي من الداخل، كقطرات ندى على ورق شجر، حالة قد تأتي البعض حين يقرأون.
القراءة تبدأ بالعينين لأن نور العينين أكثر الحواس حدة. منذ القِدَم العلماء يعتبرون البصر هو أهم الحواس التي تستطيع عبرها الحصول على المعرفة. هناك بديهية عند القارئ وهي أن الأحرف يراها بواسطة حاسة البصر، ومن خلال مختبر جسم الانسان تتحول فيها الأحرف الى كلمات ذات معاني، والصور المرئية بألوانها إلى دلالات مفهومه كل ذلك ممكن أن نطلق عليه فعل القراءة.
العلماء في القديم يعتبرون الدماغ والقلب بمثابة الحارس الأمين لكل ما تخزنه حواسنا في الذاكرة، وأن بقية الحواس كالسمع والشم والذوق واللمس، بالاضافة للبصر كلها موجودة في مستودع واحد فقط في الدماغ. ذلك المستودع الذي فيه الذاكرة ينطلق منه التخيل والأحلام.
ابن الهيثم العالم الموسوعي البصري تُوُفيّ عام 1040م، ذكر أن هنالك إدراك عادي يحدث بصورة لا واعية أو غير إرادية، مثل ما يرى الإنسان الضوء عبر النافذة والكيفية التي يتغير فيها النور في فترة العصر. وهذا أدراك حسّي يتطلب فعلا معينا واع يقوم به البصر من أجل فك الرموز أو القراءة التي يراها.
فعلا القراءة عملية معقده إتمامها يتطلب تنسيق بين عمليات الاستدلال والاستنتاج والتذكر والتعرّف، والقراءة بصمت توفر علاقة هادئة مع الكتَاب والكلمة، وتوفر وقت ومجهود التي ربما يحتاجهما الذي ينطق ويرفع صوته بالقراءة.
قراءة الصامت تكسب صاحبها وقتا، لتسبح المعلومه داخل القارئ أو ربما تجثم المعلومة في موقع ما في إدراكه، ويخالطها التلذذ والتمعن وإيقاع الكلمات حتى يقول القارئ؛
أتمرس بقراءة الصمت من أجل أن تملئني النصوص التي اقراءها نشوة، وعندما تعقد لذة فهمها لساني؛ انتقل كما في الحلم إلى حالة أجمع فيها حواسي وأفكاري، وعندما يطول هذا الصمت يهدأ اضطراب الذكريات في قلبي، وتغرقني دون توقف موجات الفرح غير المتوقعة من داخلي فيهدأ حالي.
القراءة وحدها هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقاً وإن كانت لا تطيلها بمقدار السنين. وتعوّد لذة التساؤل تقود للأجوبة التي تُطفئ فضولك المعرفي، وإلى ما يُشوقك ويهزك. وهذا ما يدفع القارئ الحصيف قائلا؛
أُقلِّبُ كُتباً طالما قد جمعتُها
وأفنَيتُ فيها العينَ والعينَ واليدا
إذا ما كتاب الوجد أشكل سطره
فمن زفرتي شكل ومن عبرتي نقط.
المأمون حين سئل عن ألذ الأشياء فقال؛ التنزه في عقول الناس. ومغزى القول هو؛ مطالعة مؤلفات الأخرين مثابة استمتاع معرفي واطلاع على تجاربهم. ولرينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي مُتوفيّ عام 1650م قول؛ أن قراءة الكتب الجيدة هي بمثابة التحاور مع اعظم العقول التي عاشت عبر العصور الماضية.
اللغة الحارة أحيانا دلالة صدق ومعياره، والصدق حلقة الوصل بين النص والكاتب، وغالبا ما تتحول ذات الكاتب إلى نص، والكلمات هي أجنحة طائرة تطير حال نطقها ولا يبقى منها حتى الصدى وعدم تدوينها على الورق هو كلام يطير في الهواء.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |