امتداد لمقالين نُشرا في صحيفة البلاد الغراء عن شبة جزيرة آيبريه، هذا عنوان يتحدث عن ارهاصات وأحداث فتح العرب المسلمين لآيبريه وإنهاء حكم القوط فيها. القوط أنهوا حكم الرومان فيما سبق، وهم من قبائل جرمانية.
الطريف آنذاك أن الرومان وصفوا كلام القبائل الجرمانية، إذ لم يفهموه أنه مثل ثغاء الغنم أي (baa,baa)، ويُروى أن منها جاءت كلمة "برابرة" التي أصبحت تعني لاحقا المتوحشين. هذا التعريف أُستخدم على سائر الأقوام التي كانت تعيش خلف الحدود الطبيعية التي يشكلها الراين والدانوب، شاملين بذلك الجرمان المتفرعين من أرومة ضمّت؛ القوط والوندال والفرانك (الفرنجه) والانغلز (الإنكليز) والسكسون وغيرهم.
هذه القبائل الجرمانية حاولت التوغل في أراضي الإمبراطورية الرومانية بحثا عن المناخ الأفضل، والفرص المناسبة للإتجار والربح لكن الجيوش الرومانية كانت تصدها مرة بعد أخرى. واستمر هذا الوضع حتى نهاية القرن الثاني الميلادي ثم بدأ ينقلب بسرعة. خلال تلك الفترة امتصّت ممالك روما الضائعة جنودها فلجأت إلى توظيف المرتزقة من القبائل الجرمانية لحماية حدودها.
وفي الربع الأخير من القرن الرابع الميلادي والخامس حدث لم يكن متوقعاً إذ تحول الجرمان من حماة إلى غزاة، فأخذت هذه القبائل تنهب وتحرق وتدمر روما، ونُحيَّ آخر اباطرة الإمبراطورية الرومانية الغربية "رومولوس اوغسطولوس"، ونُصب الزعيم القوطي "ادواسر" نفسه مكانه عام 476م. التاريخ لم يسجل للوندال أو الجرمان وسائر قبائلهم الأخرى حضارة أو عمارة إذ اشتهروا بالحرب والنهب، بل إن أسم الوندال محفوظ في كلمة (فاندالزم) Vandalism التي تعني في اللغات الأوربية التخريب المتعمّد للممتلكات وتحديدا العامة منها جزاء نهب روما.
بعدها أنتشر في شبه جزيرة آيبريه خليط من الأقوام والقبائل التي تعاقبت على مر العصور مثل"اللغرانيين" الذين جاءوا اليها من شمال إيطاليا والكلتيين الذين قدموا من غالة (فرنسا)في القرن السادس ق.م، بعدها لم تستقر آيبريه بسبب كثرة النزاعات على النفوذ بين القوط والوندال فكانت طيلطلة من نصيب القوط فما صنعوا؟
تمكن القوط في القرن السادس ميلادي من شبه جزيرة آيبرية وجعلوا عاصمتها الجديدة طليطلة، ولكنهم لم يسيطروا على السكان الأصليين، وتكمن عدة أسباب لهذا الوضع منها؛
القوط يدينون بالنصرانية على المذهب الآريوسي نسبة إلى الكاهن الليبي المُولد"آريوس"، فيما كانت غالبية السكان الأصليين وغالبهم كما يعتقد من الشمال الأفريقي يدينون بالمسيحية على المذهب الكاثوليكي، وتطور الخلاف بين الحاكم والمحكوم إلى قلاقل واضطرابات استمرت حتى قرر المحفل الديني الثالث عام 589م واعتماد الكاثوليكية مذهبا لسائر سكان المملكة الآيبرية. فَتَكَثْلَكَ الملك "ريكهارد الاول 586-601م"، وانطوى بذلك الخلاف القائم بين السلطنة والكنيسة، فتقوى الطرفان ببعضهما وأزداد نفوذهما، ويوم إعلان طليطلة العاصمة كان القوط يعدون قرابة 100 ألف نبيل ومحارب لذا كانوا قلّة ضئيلة قياسا إلى السكان الأصليين الذين زاد عددهم آنذاك على ثلاثة ملايين نسمة.
برزت بعدها مشاكل في نظام المُلك والخلافة بينهم، فاتفق النبلاء أن يُختار الملك انتخابا والتزم النبلاء الاتفاق دهرا، لكن طبيعتهم القبلية غلبت على سلوكهم آخر الأمر، فنشبت أزمة داخلية حادة بينهم كان لها أثر حاسم في تسهيل احتلال شبة جزيرة آيبرية وتقويض الحكم القوطي وهذا ما كان مؤاتيا لقائدا واعدا مثل؛ طارق بن زياد أن يدخل الجزيرة الخضراء وتبدأ معها قوافل فتح للأندلس فكيف حصل؟
فتح الأندلس حتّم ضمان حماية المغرب واستقرارها، وهي الامتداد إلى آيبريه لمنع عبور القبائل الجرمانية إلى شمال أفريقية، وباحتلال آيبريه ممكن أن يوفر هذا حدود طبيعية حاجزه، وهي سلسلة جبال البيرينيه شمالا والمحيط الأطلسي (البحر الكبير أو بحر الظلمات) غربا، وكان فتح شمال أفريقية من أعسر أعمال الفتح الإسلامية إذ كلّف الكثير من الدماء والمال والجهد واستمر نحو 70 سنة قبل أن يتمكن موسى بن نصير من إخضاع القبائل البربرية سنة 90 هجري (709 م)، وأخذ فتح الشمال الأفريقي صورة موج البحر فتعاقبت الحملة تلو الأخرى إلى حين استكماله، ولم يبق في المغرب كله سوى مدينة "سبته"، وكانت هذه المدينة الحصينة تابعة آنذاك لبيزنطة يأتمر بأمرها يوليان (جوليان)الذي زود المسلمين بالسفن.
استعصت سبته على الفاتحين لأن السبيل الوحيد لاقتحامها جهة البحر، ولم تكن السفن الكافية لهذه الحملة متوافرة آنذاك، تعددت الروايات عند المؤرخين حول أسباب جوليان في دعمه للفاتحين وانتقامه من الملك رودريك حاكم طليطلة منها، وقوع الملك رودريك في أخذ ابنة جوليان وفض بكارتها، واُخرى تأييد جوليان لمعارضي وجود رودريك على رأس المملكة في طليطلة، وربما كان ثمن المساعدة ضمان سلطته وأملاكه. جوليان هذا قدم سفنه لتعبر عليها القوات العربية الإسلامية.
وفيما كان رودريك في قصره بطليطلة جاءه رسول يبلغه بنزول جيش طارق بن زياد فسار اليه متعجلا ردّه ودارت بين الجهتين معركة شرسة استمرت ثمانية أيام تحقق لجيش طارق بعدها النصر، ومُنيّٓ القوط بهزيمة ماحقه وانتهى ملكهم رودريك قتلا أو غرقا. ولم يتمكن القوط بعدها من الصمود فخٓلّف جنود مهزومين.
كان الطريق مفتوحاً لجنود طارق، ومن بعده قائده موسى بن نصير حتى أقصى الشمال من دون مقاومة حقيقية من النبلاء أو رجال الكنيسة. ويوم وقعت الهزيمة بآخر ملوك القوط كان القوط قد امضوا في شبه جزيرة آيبريه أكثر من 250 سنة.
خلال هذا الزمن القوط لم يضيفوا الكثير إلى ما بنته الامبراطورية الرومانية، بل عانت البلاد في عهدهم من الانحطاط الذي ساد معظم المناطق التي حلت فيها القبائل الجرمانية. لأنها لم تكن وضعت السيف جانبا، ولم تكن تعلمت كيف تبنى الحضارات وتستميل العامة وتحق الحق وتبطل الباطل.
أعتمد العرب اعتمادا حاسما على الامازيغ "البربر" في فتح الأندلس إذ المعروف أن طارق قاد جيشا ضم عددا كبيراً من قبائل "الجبلين". الأندلس آنذاك دولة شاسعة متشعبة الطرق ربما ضمت أكثر من أربعة ملايين نسمة ولم يكن في وسع طارق تأمينها كلها، فعبر موسى بن نصير عام 712م عام 93 هجري على رأس 18 ألف مقاتل واتجهت الجيوش في محاور عدّة شرقا وغربا وشمالا.
وعلى الرغم من أن مدنا كثيرة فتحت بواباتها للجيش الفاتح إلا أن إخضاع الأندلسي أستغرق أربع سنوات، وأمام عزم الجيش الفاتح البقاء في الأندلسي قٓبْلَ معظم الأعيان ورجال الكنيسة بالسلطة الجديدة. حادثة حرق السفن مروياتها كثرت، والترجيح لما حصل لها يأتي لاحقا.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |